لا مجال هنا لرهافة المشاعر، ولا محل لرقة القلوب، ولا داعي لذروف الأعين، ولا عذر في حزن المرء، ولا مكان ثمة لتأثر النفوس، فقد حل العذاب ونزل القضاء وقضي الأمر وقيل : بعدًا للقوم الظالمين .
إن من سنن الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- ألا يأسفوا على الهالكين عند حلول العذاب، ومن هديهم ألا يحزنوا على مصارع الظالمين إذا نزل بهم من الله ما يستحقونه .
فها هو صالح -عليه السلام- يتولى عن قومه وقد حل بهم العذاب ونزل بهم البلاء ويعاتبهم على عدم قبول نصحه ويوبخهم على إعراضهم عن دعوته قال تعالى :{ فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [ الأعراف : 77 – 79] .
قال ابن كثير -رحمه الله- :" هذا تقريع من صالح، عليه السلام، لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العمى -قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك " [ تفسير ابن كثير : 3/443-444 ] .
وها هو إبراهيم -عليه السلام- يجادل عن قوم لوط لما علم بحلول العذاب بهم، فيدافع عنهم رغبة في إسلامهم وطمعًا في نجاتهم كما قال تعالى : {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } [ هود: 74 -76] .
وجدال إبراهيم -عليه السلام- للملائكة كان عن القوم الكافرين على أصح قولي المفسرين، كما قال ابن عطية -رحمه الله- :" وقالت فرقة : المراد { يجادلنا } في مؤمني قوم لوط - وهذا ضعيف - وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصاً عليهم ، والمعنى : قلنا يا إبراهيم أعرض عن المجادلة في هؤلاء القوم والمراجعة فيهم ، فقد نفذ فيهم القضاء" [ المحرر الوجيز : 3/449].
وقال ابن جزي ال***ي :" ومعنى جداله كلامه من الملائكة في رفع العذاب عن قوم لوط" [ التسهيل : 709] .
وها هو شعيب -عليه السلام- وهو يرى هلاك قومه فيتولى عنهم غير مأسوف عليه ولا مكثتر لهم كما قال الله - وهو يحكي في كتابه تلك القصة العجيبة- { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين } [ الأعراف : 91 – 93 ] .
قال ابن جزي -رحمه الله- :" { فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم " [ التسهيل : 512] .
وقال ابن سعدي -رحمه الله- :" { فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي: فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا يليق بهم إلا الشر، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم، بل يفرح بإهلاكهم ومحقهم. فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة، وأي: شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم ؟ " [ تيسر الكريم الرحمن : 296] .
وقال محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- :" أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى، أي : الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم ، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجا وعنادا ، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي ، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا rعنه في قوله : {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} " [ أضواء البيان : 2/37] .
وها هو موسى عليه السلام يعاقب الله قومه بالتيه ويأمره بألا يأسى عليهم ولا يكترث لهم ولا يحزن عليهم قال تعالى :{ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } [ المائدة : 26]
قال ابن كثير -رحمه الله- :" وقوله تعالى: { فلا تأس على القوم الفاسقين } تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك " [تفسير ابن كثير : 3/81].
وقال ابن سعدي -رحمه الله- :" ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: { فلا تأس على القوم الفاسقين } أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلمًا منا " [ تيسير الكريم الرحمن : 227] .
وهكذا كان دأب خاتم الأنبياء والمرسلين محمد r، فلا يأسى على أولئك عند حلول العذاب، ولا يرق لهم إذا نزل المصاب، وإليك مواقف من سيرته العطرة، وقطوفًا من مشاهده الجليلة النظرة :
منها ما جاء عن أبي طلحة t أن النبي r أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر حيث ... حتى قام على شفا الركية فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال r : والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون ) . [ صحيح البخاري : 3976 ] .
فها هو r يرى صناديد قومه وكبراء عشيرته وسادة قبيلته فلم يعبأ بهم ولا يأسف عليهم .
ومنها أنه r في أثناء رجوعه للمدينة بعد غزوة بدر أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، فلما سمع عقبة بن معيط بذلك قال: يا ويلي، علام أُقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول الله r : " لعداوتك لله ولرسوله" قال: يا محمد مَنُّك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت علي، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، ثم أراد أن يستعطف النبي r بكلمة ربما لو يلت لأحدنا لذاب لها قلبه قال: يا محمد مَنْ للصبية ؟ قال رسول الله r : " النار، قدمه يا عاصم فاضرب عنقه" فضرب عاصم عنقه [ انظر: سنن أبي داود : (ح )2688، وحسنه الألباني، ومجمع الزوائد (6/89) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، والسيرة النبوية لابن هشام(1/439، 440) ] .
ومنها أنه أمر بضرب رقاب بني قريظة في يوم أحد و هم نحو سبعمائة فحفرت لهم الأخاديد في سوق المدينة وهو منظر مهول وهو الآن في الأعراف الدولية جريمة إنسانية ومذبحة بشرية وتطهير عنصري وسمها ما شئت من الأسماء المحدثة، ولو كان أحدنا في موقفه ربما ما فعل ذلك، فهل نحن أرحم من رسول r؟! ومع هذا لم يشفق عليهم ، ولم يأسى لهم ، ولم يرأف بهم، بل قتلهم وسبى ذراريهم ونسائهم .
وما يهلك الله أمة من الأمم الظالمة إلا ويقال لها : بعدًا ، كما قال الله تعالى لما أهلك قوم نوح : {وقيل بعدًا للقوم الظالمين} [هود: 44] .
قال الشوكاني -رحمه الله- :" { وقيل بعدا للقوم الظالمين } القائل : هو الله سبحانه ، ليناسب صدر الآية . وقيل : هو نوح وأصحابه . والمعنى : وقيل هلاكا للقوم الظالمين ، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك " [فتح القدير : 3/450] .
وقال تعالى لما أهلك قوم عاد: {ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود} [هو:60] .
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- :" أبعدهم الله من الخير" [ جامع البيان : 15/ 367] .
وقال البيضاوي -رحمه الله- :" {ألا بعدا لعاد} دعاء عليهم بالهلاك والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكي عنهم" [ أنوار التنزيل : 3/242 ] .
وقال تعالى لما أهلك قوم صالح : { ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} [هود: 68] .
وقال عنهم :{ فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين} [ المؤمنون : 41] .
قال ابن سعدي - رحمه الله- :" { فبعدا للقوم الظالمين } أي: أتبعوا مع عذابهم البعد واللعنة والذم من العالمين" [تيسر الكريم الرحمن : 551] .
وقال تعالى لما أهلك قوم شعيب : {ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} [ هود: 95] .
ثم قال - في سياق ذكر الأمم التي بعثت لها الرسل فكذبت تلك الأمم رسلها فأصابهم الهلاك - :{ ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون"}[ المؤمنون : 44] .
قال ابن سعدي -رحمه الله- :" { وجعلناهم أحاديث } يتحدث بهم من بعدهم، ويكونون عبرة للمتقين، ونكالا للمكذبين، وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم. { فبعدا لقوم لا يؤمنون } ما أشقاهم!!. وتعسا لهم، ما أخسر صفقتهم!! " [ تيسير الكريم الرحمن : 552] .
وفي معنى البعد قال البغوي -رحمه الله- :" وللبعد معنيان: أحدهما ضد القرب، يقال منه: بعد يبعد بعدًا، والآخر: بمعنى الهلاك، يقال منه: بعد يبعد بعدا وبعدا" [ معالم التنزيل : 4/185] .
وقال الشوكاني :" والبعد : الهلاك ، والبعد : التباعد من الخير ، يقال : بعد يبعد بعدا : إذا تأخر وتباعد ، وبعد يبعد بعدا : إذا هلك ، ومنه قول الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
وقال النابغة :فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرىء يوما به الحال زائل
ومنه قول الشاعر :ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت دون رجالهم لا تبعد "
[ فتح القدير : 3/458]ونهى الله أنبياؤه أن يخاطبوه في شأن المعذبين، وأن يكلموه في أمر الهالكين قال تعالى لنوح –عليه السلام- :{ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [ هود : 37] .
قال الشوكاني -رحمه الله - :" وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف ، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة ، الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة ، المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب ، وأشعار بواقع شعرائهم ، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها . وقد تعرض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم ، فأطالوا وأطابوا ، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة " [فتح القدير : 3/450].
فالظالم إذا هلك ذهب غير مأسوف عليه ولا مؤبه به ولا منظور إليه، فيسلم منه العباد والبلاد، قال تعالى:{فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [ الدخان 29] .
قال الشوكاني -رحمه الله- :" { فما بكت عليهم السماء والأرض } هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم" [ فتح القدير: 6/429] .
وقال ابن سعدي - رحمه الله - :" { فما بكت عليهم السماء والأرض } أي : لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض، أي لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض، لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين" [ تيسير الكريم الرحمن : 1/773] .
وقال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- :" أي فما كان مهلكهم إلا كمهلك غيرهم ولم يكن حدثا عظيما كما كانوا يحسبون ويحسب قومهم، وكان من كلام العرب إذا هلك عظيم أن يهولوا أمر موته بنحو: بكت عليه السماء، وبكته الريح، وتزلزلت الجبال، قال النابغة في توقع موت النعمان بن المنذر من مرضه:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والبلد الحرام
وقال في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه موحش متضائل
والكلام مسوق مساق التحقير لهم" [ التحرير والتنوير : 5/161] .والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الأمين والآل والصحب والتابعين إلى يوم الدين
(نقلا عن منتديات الاسلام اليوم))
(نقلا عن منتديات الاسلام اليوم))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق