للرد
على المخالف شروط لا يجوز الرد إلا بتوفرها، ومنها:
الأول: وهو
شرط في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، ألا وهو الإخلاص لله تعالى، فيجب على الراد أن
يكون الحامل له علي ذلك ليس العرق ولا اللون ولا الناس ولا الهوى ولا العاطفة ولا
التشفي، إنما الذي يحمله الذب عن دين الله سبحانه وتعالى وسنةِ نبيه صلى
الله عليه وسلم، وإرادة الإصلاح كما قال شعيب عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا
الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)(هود: من الآية88)، وبغير الإخلاص يكون هذا العمل مهما
عظم مردوداً على صاحبه -عياذاً بالله- فإذا أخلص الإنسان في رده ظهر ذلك بإذن الله
تعالى في عمله فلا يجور ولا يفتري.
وقال
عباد بن الخواص في رسالته لأهل العلم، بعد أن بيَّن خطر البدعة، ونعى على
المخالفين ضلالهم بترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كلام طويل: "ولا
تعيبوا البدع تزيناً بعيبها؛ فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم، ولا تعيبوها
بغياً على أهلها؛ فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يداوي المرضى
بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس
لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، فليكن أمركم فيما تنكرون على إخوانكم
نظراً منكم لأنفسكم، ونصيحة منكم لربكم، وشفقة منكم على إخوانكم، وأن تكونوا مع
ذلك بعيوب أنفسكم أعنى منكم بعيوب غيركم"(سنن الدارمي: 1/129).
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية: (الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يُقْصَدْ فيه
بيان الحق وهدى الخلق ورحمتُهم والإحسانُ إليهم، لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلَّظَ
في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيانَ ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص
الوعيد وغيرها، وقد يُهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله،
للرحمة والإحسان، لا للتشفي والانتقام).ا.هـ من منهاج السنة (5/239)
وقال
–رحمه الله-: (فلا يحل للرجل أن يتكلم في هذا الباب –أي في الرد على المخالف- إلا
قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله
لله،... فلو تكلم بحقٍ لقصد العلو في الأرض أو الفساد، كان بمنزلة الذي يقاتل
حميةً ورياء، وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين، كان من المجاهدين في سبيل
الله من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل.) ا.هـ من الفتاوى (28/ 234 -235)
وقال
-رحمه الله-: (وإذا كان الرجل مبتدعاً يدعو إلى عقائدَ تخالف الكتاب والسنة، أو
يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة، ويُخافُ أن يُضلَ الناس بذلك، بُيِن أمره للناس
ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كلُه يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاءِ وجه
الله تعالى، لا لهوى الشخص مع الإنسان، مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد
أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساويه، مظهراً للنصح، وقصده في الباطن
الغضُ من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و إنما الأعمال بالنيات، وإنما
لكل امرئ ما نوى بل يكون الناصح قصده أن يصلح الله ذلك الشخص وأن يكفي المسلمين
ضرره في دينهم ودنياهم.) ا.هـ من الفتاوى (28/221).
الثاني: وهو
شرط أيضاً في كل عبادة لله سبحانه و تعالى، ألا وهو المتابعة للنبي r في الرد على المخالف، فلا يجوز أن يُرد على المخالف
بالإحداث في دين الله سبحانه تعالى، كما فعل المرجئة مع الخوارج، وكما فعل
الأشاعرة مع المعتزلة، فإنهم ردوا البدعة ببدعة -والعياذ الله-، بل الواجب أن
تُردَ البدعة بالسنة إلى السنة، لأن مقصودَ السني من رد الخطأ إظهارُ الحق، فكيف
يرد الباطل بالباطل!، ولأن رد الباطل بالباطل يؤدي إلى استطالة المردود عليه أكثرَ
وأكثر، قال ابن تيمية: (الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعِباً إلا إذا اتُبِعت
السنةُ من كل الوجوه وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من
الوجه الذي خالف فيه السنة، واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات
المخالفة للسنة.
ثـم
قال: وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهلُ الباطل على من هو أقربُ إلى الحق منهم،
فوجدتُه إنما تكون حجةُ الباطل قويةً لمـا تركوه من الحق الذي أرسل اللَّـهُ به
رسوله، وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم،
ووجدت كثيراً من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليهم، يوافقون
خصومَهم تارة على الباطل، ويخالفونهم في الحق تارة أخرى، ويستطيلون عليهم بما
وافقوهم عليه من الباطل وبما خالفوهم فيه من الحق).ا.هـ من درء تعارض العقل والنقل
(3/209).
وقال
ابن القيم في الصواعق المرسلة بعد سياقه لكلام ابن تيمية المتقدم: (وليس لمبطل
بحمد الله حجةٌ ولا سبيلٌ بوجه من الوجوه على من وافق السنة، ولم يخرج عنها، حتى
إذا خرج عنها قدر أنملة، تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السنة،
فالسنة حصن الله الحصين، الذي من دخله كان من الآمنين، وصراطه المستقيم الذي من
سلكه كان إليه من الواصلين، وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من
المهتدين).ا.هـ من الصواعق المرسلة (4/1255).
الثالث:
الأهلية: وهي القدرة على الرد على المخالف، فليس كل من كان عنده حماسٌ للدين
وغيرَةٌ عليه يشرع له الرد على المخالف، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) فكل من يريد
أن يرد على المخالف لا بد أن يرد الباطل إلى الحق، والحق لا يعرف إلا بالعلم، فمن
لم يكن له علم فلا يجوز له أن يرد على الباطل.
لأن
من لا علم عنده إذا رد على الباطل سيؤدي رده إلى مفسدة أعظم.
قال
ابن تيمية رحمة الله تعالى " وقد كانوا ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان
المناظر ضعيف العلم كما يُنهى عن المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار
فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة".أ.هـ. من درء تعارض العقل والنقل
(7/173).
وقد
حدثني أحد الإخوة في بلدٍ من البلاد العربية عن أحد الجهال المنتسبين للسنة، لما
ناظر أحد رؤوس المبتدعة في صفة علو الله سبحانه وتعالى، واجتمع الناس في المسجد
لأجل ذلك، فما هو إلا أن قامت المناظرة وصار المبتدع يطرحُ الشبهةَ تِلو الشبهة،
والسنيُ الجاهل لا يحسن الرد عليه، وهكذا حتى انكسر ذلك المسكين الجاهل، وضر أهل
السنة، فقام أهل المسجد من أهل البدع ورفعوا المبتدع علي أكتافهم يكبرون ويهللون
فرحين، وما ذلك إلا بسبب رد هذا الجاهل على هذا المبتدع، لذلك كان السلف وأتباعهم
بإحسان ينهون العامة عن الدخول مع أهل البدع في المجادلات، والخصومات.
لكن
ينبغي التنبيه: إلى أن نقل العامي أو المقلد لكلام أهل العلم في جرح شخص معين أو
جماعة معينة ليس من هذا، حيث إن ذلك من النقل الذي يشترط فيه الضبط، وليس من الرد
على المخالف الذي نتكلم عنه والذي يحتاج للعلم.
الرابع:
العدل: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)
قال
ابن تيمية: "وقد قال سبحانه: (ولا يجرمنكم يشنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا
هو أقرب للتقوى) فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف
إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان، فهو أولى أن يجب عليه ألا
يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالماً له".ا.هـ من الاستقامة
(1/37).
وفي
تَرجَمَة حَاتم الأصَمّ -(ت237)- لمَّا دَخلَ بغدَاد اجتمعَ إليه أهلُ بغدَادَ
فقَالوا له: (يَا أبَا عبدالرحمن أنتَ رجلٌ أعجميٌّ، وليس يُكلِّمكَ أحدٌ إلَّا
قطعتَه؛ لأي معنى؟)؛ فقالَ حاتمٌ: (مَعي ثَلاثُ خِصالٍِ بها أظهرُ على خَصمِي)،
قَالوا: أيُّ شيءٍ هيَ؟، قالَ: (أَفرحُ إذا أصَابَ خَصمي، وأحزنُ له إذا أخطَأ،
وأحفظُ نفسِي لا تَتَجاهَلُ علَيه)، أي لا يجور عليه ولا يظلمه، ا.هـ من تاريخ
بغدَاد (8/242).
فالراد
على المخالفين قد يكون عادلاً في رده وقد يكون ظالماً -والعياذ بالله-.
قال
ابن تيمية: فالراد على أهل البدع مجاهد... والمجاهد قد يكون عدلاً في سياسته وقد
لا يكون وقد يكون فيه فجور، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله يؤيد هذا
الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم ا.هـ من الفتاوى (4/13)
ومن
الأمثلة على الظلم في هذا الباب:
*
عدم التثبت، فبمجرد سماع بعضهم للخبر عن أخيهم السني السلفي المعروف بالعلم
والدعوة أنه فعل كذا وكذا، إذا بهم يطيرون بها ليردوا عليه، وهذا من الظلم والجور
والعياذ بالله، وكان الأولى بهم أن يحسنوا الظن بأخيهم أولاً، ثم يتثبتوا من الخبر
ثانياً، فإن الله يقول: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ، لَوْلا
جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيـمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ،
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(النور:12 - 17)، ولقد وقفت في هذه الأيام على حادثة عجيبة، تفيد أهمية الاحتياط
في ذلك، وحاصلها: أن أحد طلبة العلم من أهل السنة لما زار أحد إخوانه من أهل السنة
وجد فيه انقباضاً وتغيراً، فلما سأله عن سبب ذلك، عاتبه على ذمه وقدحه فيه وكتابة
ذلك الذم والقدح لولاة الأمر، فنفى طالب العلم ذلك وطلب البينة عليه، فجاء أخوه
بأوراق مختومة بتوقيع طالب العلم نفسه تفيد ذلك، فلما رآها طالب العلم علم أنه
لُفِقت عليه وزورت بيد المخالفين للوقيعة بينه وبين إخوانه من أهل السنة.
لذا
فليعلم إخواننا من أهل السنة أن الشيطان وحزبه قد جعلوهم غرضاً لهم، فإن أهلَ
السنة أشدُ على الشيطان وحزبه من كل أحد، لأنهم حزب الله وأولياؤه، وقد روى مسلم
من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن
يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم).
*ومن
الظلم والجور الناتج في الغالب عن قلة العلم، أن يُخرج السني من السنة بمسألة يسوغ
فيها الخلاف.
قال
الإمام أحمد: ( إخراج الناس من السنة شديد) رواه الخلال في السنة.
وقال
ابن تيمية-رحمه الله-: (ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل
هذه الأصول، بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد، التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر
السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القسامة والقرعة، وغير ذلك
من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ).ا.هـ من الفتاوى (4/425).
وقال
-رحمه الله-: (أهل التوحيد... وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد
لم يوجب ذلك لهم تفرقاً ولا اختلافاً بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن
المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له) ا.هـ من الاقتضاء (1/ 457).
وقال
-رحمه الله-: (ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من
أصحاب الشافعي وغيره إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن
يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين
تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه).ا.هـ من الفتاوى (30/79).
وقال
ابن القيم -عن الاختلاف في المسائل الاجتهادية-: (وهذا النوع من الاختلاف، لا يوجب
معاداة ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل، فإن الصحابة رضي الله عنهم
اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة... فلم ينصب بعضهم لبعض
عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما
يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من
غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة، ولا ذم بل يدل المستفتي
عليه، مع مخالفته له ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه، فهذا الاختلاف أصحابه بين
الأجرين والأجر وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق.ا.هـ من الصواعق
المرسلة (2/517).
وقال
الذهبي: (ولو أنا كُلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له،
قمنا عليه، وبدَّعناه وهجرناه، لما سَلِمَ معنا لا ابنُ نصر ولا ابنُ مندة، ولا من
هو أكبرُ منهما، والله هو هادي الخَلْقِ إلى الحقِّ، وهو أرحم الرَّاحمين، فنعوذ
بالله من الهوى والفظاظة).ا.هـ من السير (14/40).
وقال
-في ترجمة ابن خزيمة-: (ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخيه
لإتباع الحق- أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا رحم الله الجميع بمنه
وكرمه). ا.هـ من السير (14/374).
بل
إن الذي يحول المسألة الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف، إلى مسألة لا يسوغ فيها
الخلاف، ثم يوالي ويعادي عليها، فإنه يعد بذلك من أهل الافتراق والتحزب المذموم،
قال ابن تيمية: (ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات
قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من وإلى موافقه، وعادى
مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه، دون موافقه، في مسائل الآراء
والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق
والاختلافات).ا.هـ من الفتاوى (3/348).
وقال:
(وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق، حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا
ونحوه مما سوغه الله تعالى كما يفعله بعض أهل المشرق فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا).ا.هـ من الفتاوى الكبرى (2/41).
*ومن
الظلم والجور الناتج في الغالب أيضاً عن قلة العلم، أن يُخرَجَ السنيُ من السنة
بمسألة لا يسوغ فيه الخلاف، لكنها مسألة جزئية غير كلية ليست هي من أصول السنة
التي يضلل بها المخالف، وليست هي من شعار أهل البدع، ولم يفرق الأمة بسببها،
فيوالي عليها ويعادي، قال ابن تيمية: (وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ:
"بل عجبتُ" ويقول إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيمَ النخعي فقال: إنما
شريح شاعرٌ يعجبه علمه، كان عبدالله أفقهَ منه، وكان يقول: "بل عجبتُ"،
فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه
إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعض حروف القرآن مثل إنكار بعضهم قولـه:
"أفلم ييأس الذين آمنوا" وقال إنما هي أو لم يتبين الذين آمنوا وإنكار
الآخر قراءة قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"، وقال إنما هي
ووصى ربك، وبعضهم كان حذف المعوذتين وآخرُ يكتب سورة القنوت وهذا خطأ معلوم
بالإجماع والنقل المتواتر).ا.هـ من الفتاوى (12/492).
وقال
-رحمه الله-: "ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول
الدين والكلام على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة.
ومنهم
من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة...ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه
قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله
سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك" ا.هـ من الفتاوى (3/348).
وقال
-رحمه الله-:أما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف
مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير وقد قال
النبي لأصحابه يوم بنى قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة فأدركتهم العصر
في الطريق فقال قوم لا نصلى إلا في بنى قريظة وفاتتهم العصر وقال قوم لم يرد منا
تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين أخرجاه في الصحيحين من
حديث ابن عمر، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق
بالأحكام.ا.هـ من الفتاوى (24/174).
وقال
الشاطبي –رحمه الله-:"وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة
الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛
إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ
التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات نص من الجزئيات غير قليل،
وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، وأما الجزئي فبخلاف
ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له؛ كالزلة والفلتة".ا.هـ من الاعتصام
(2/712-713).
ومع
ذلك البيان من أئمة الإسلام ترى بعض الناس يأتي إلى الداعي سني أو الجماعة من أهل
السنة، الذين يحاربون الشرك والبدع وأهلها في قلب أقاليم تعج بالشرك والبدعة
وسدنتِها، فيبدعهم ويضللهم لأنهم زلوا في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، أو في مسألة
لا يسوغ فيها الاجتهاد، لكنها مسألة جزئية غير كلية ليست هي من أصول السنة التي
يضلل بها المخالف، وليست من شعار أهل البدع، التي يوالون ويعادون عليها.
مثال
ذلك على الواقع: (زيد) من الناس كان معروفاً بالسلفية، وظهرت منه بعض الأخطاء،
فاجتهد بعض أهل العلم وأخرجوه من السنة، ولهم اجتهادهم، وهم مابين أجر أو أجرين،
ولكن بالمقابل اجتهد بعض علماء السنة فحكم أن (زيداً) هذا ليس من أهل البدع، وخطؤه
لا يخرجه من السنة، ويرى المناصحة له والرفق به، وهذا كله من الاجتهاد كما قال ابن
تيمية في هذه المسألة: (وقد ينكر أحدُ القائلين على القائل الآخر قوله، إنكاراً
يجعله كافراً أو مبتدعاً فاسقاً يستحق الهجر وإن لم يستحق ذلك، وهو أيضاً
اجتهاد).ا.هـ من الفتاوى (6/60) فمسألة اختلافِ هؤلاء العلماء في (زيد) هذا مسألة
اجتهادية ليست من أصول السنة التي يبدع فيها المخالف، وإلا لو كانت كذلك لكان يلزم
كلَ طرف من المختلِفِين أن يبدع الطرف الآخر، لأنه في نظره قد خالف أصلاً من أصول
السنة!! وهذا باطل قطعاً.
ثم
لا بد أن يتبع ذلك أن يُعلم أن العامي السني إذا قلد أحد الـمُختَلِفِين في (زيدٍ)
هذا فلا يجوز إخراجه من السنة من باب أولى وأولى، قال ابن تيمية: (فهذه مسائل
الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان
فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له، فمن
ترجح عنده تقليد الشافعي لم يُنْكِر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده
تقليد أحمد لم يُنْكِر على من ترجح عنده تقليد الشافعي، ونحو ذلك).ا.هـ الفتاوى
(20/292).
وقال
ابن القيم: (وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر
على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً) ا.هـ من أعلام الموقعين (3/288).
وكثيرٌ
مما نحن فيه اليوم –وللأسف- من التفرق بين إخواننا السلفيين والذي يشمت بسببه أهلُ
البدع بأهل السنة، إنما هو بسبب عدم الفهم لهذه المسألة وأمثالها.
وختاماً
لهذه المسألة: على كل من ابتلي من إخواننا أهل السنة بظلم أحد إخوانه له، أن يصبر،
وليعلم أن ذلك محنة من الله، واجبها الصبر، وسيجعل الله له العاقبة في الدنيا
والآخرة، ولا يستعجل الرد على إخوانه فإن هذا في الغالب يزيد الشر أكثر وأكثر، كما
هو مشاهد، قال ابن تيمية: (وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً
أو فعلاً، ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة ويصبر على جهل الجهول وظلمه،
إن كان غير متأول، وأما إن كان ذاك أيضا متأولاً فخطؤه مغفور له، وهو فيما يصيب به
من أذى بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وذلك محنة وابتلاء في
حق ذلك المظلوم، فإذا صبر على ذلك واتقى الله كانت العاقبة له، كما قال تعالى:
(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً)، وقال تعالى: (لتبلون في أموالكم
وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن
تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)، فأمر سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل
الكتاب، مع التقوى، وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض، متأولين
كانوا أو غير متأولين، وقد قال سبحانه: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى)، فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا
عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان، فهو أولى أن يجب
عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن، وإن كان ظالماً له.
فهذا
موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا، فإن الشيطان موكل ببني آدم، وهو يعرض للجميع
ولا يسلم أحد، من مثل هذه الأمور دع ما سواها من نوع تقصير في مأمور أو فعل محظور،
باجتهاد أو غير اجتهاد، وإن كان هو الحق، ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله، به
فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر،
فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك
المأمور،..و قد يحسب المؤذى إذا كان مظلوماً لا ريب فيه، أن ذلك المؤذي محض باغ
عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن، ويكون مخطئا في هذين الأصلين، إذ قد يكون
المؤذي متأولاً مخطئاً، وإن كان ظالماً لا تأويل له، فلا يحل دفع ظلمه بما فيه
فتنة بين الأمة، وبما فيه شر أعظم من ظلمه، بل يؤمر المظلوم ها هنا بالصبر، فإن
ذلك في حقه محنة وفتنة، وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعه وضعف صبره، أو لقلة علمه
وضعف رأيه، فإنه قد يحسب أن القتال ونحوه من الفتن يدفع الظلم عنه، ولا يعلم أنه
يضاعف الشر كما هو الواقع، وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر، والله سبحانه وصف الأئمة
بالصبر واليقين، فقال: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا
يوقنون)، وقال: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وذلك أن المظلوم وإن كان مأذوناً
له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)،
فذلك مشروط بشرطين: أحدهما القدرة على ذلك، والثاني ألا يعتدي، فإذا كان عاجزاً أو
كان الانتصار يفضى إلى عدوان زائد لم يجز).ا.هـ من الاستقامة(1/37-44)
*ومن
الظلم في هذا الباب: أن يقصد الإنسان الحط من أخيه، والنيل منه، فلا يجد لذلك
سبيلاً إلا أن يُلبس ذلك بلباس الدين، والحقيقة: ما هي إلا حب العلو في الأرض.
قال
ابن رجب –رحمه الله-: مِن أظهَرِ التعيير: إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح
وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك النصح: إما عاماً أو خاصاً، وكان في الباطن إنما
غرضه التعيير والأذى فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع
فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد
يقصده في الباطن وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها
المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا
وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا
الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (التوبة:107). وقال
تعالى: { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران:188)، وهذه الآية نزلت في اليهود
لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وقد أروه أن قد
أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم
عنه. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين وغيرهما،
وعن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الغزو تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإذا قدِم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا
فنزلت هذه الآية، فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين وهو أن يُظهر الإنسان في
الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن، ومقصوده بذلك التوصل إلى
غرض فاسد فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو
أبطنه، ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن، وعلى توصله في الباطن إلى غرضه
السيئ فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع، ومن كانت هذه همته فهو
داخل في هذه الآية ولا بد، فهو متوعد بالعذاب الأليم، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان
ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه أو لعداوته،
أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة، أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصل
إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من
أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم
ويذمُّه ويطعن عليه فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من
أعمال القرب لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ورفع الأذى عنه، وذلك قُربة إلى تعالى
وطاعته، فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:
أحدهما:
أن يُحمل ردُّ العالم للقول الآخر على البغض والطعن والهوى، وقد يكون إنما أراد به
النصح للمؤمنين وإظهار ما لا له كتمانه من العلم.
والثاني:
أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن
علماء الشرع.
ومن
بُلي بشيء من هذا المكر فليتق الله ويستعن به ويصبر فإن العاقبة للتقوى، كما قال
الله تعالى: بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر
والمخادعة:{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } (يوسف: من الآية 21)،
وقال الله تعالى حكاية عنه أنه قال لإخوته: { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } (يوسف: من الآية 90)، وقال تعالى في قصة موسى عليه
السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه: { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ
وَاصْبِرُوا } (الأعراف: من الآية 128)، وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود
وَبَـالُـه على صاحبه قال تعالى: { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ } (فاطر: من الآية 43)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } (الأنعام: من الآية 123)،
والواقع يشهد بذلك فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر
بأخيه فعاد مكره عليه وكان ذلك سبباً في نجاته وسلامته على العجب العجاب.ا.هـ من
الفرق بين النصيحة والتعيير(22).
فإن
قيل كيف يُعرف ذلك القصد السيئ، من القصد المشروع، والعمل الظاهر للعيان واحد؟!،
والنيات علمها عند رب البريات سبحانه وتعالى؟!، أو ليس ذلك من الدخول في النيات؟!
فالجواب
هو ما أجاب به ابن رجب -رحمه الله- فقال: ومن عرف منه أنه أراد برده على أهل العلم
التنقص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه
الرذائل المحرمة.
ويُعرف
هذا القصد تارة بإقرار الرادِّ واعترافه، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله... مثل:
كثرة البغي والعدوان، وقلة الورع وإطلاق اللسان، وكثرة الغيبة والبهتان، والحسد
للناس على ما آتاهم الله من فضله والامتنان، وشدة الحرص على المزاحمة على الرئاسات
قبل الأوان، فمن عُرفت منه هذه الصفات التي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان، فإنه
إنما يحمل ردُّه عليهم على إرادة التنقص وإظهار العيب، فيستحق حينئذٍ مقابلته
بالهوان.
ومن
لم تظهر منه أمارات بالكلية، تدل على شيء فإنه يجب أن يحمل كلامه على أحسن
مُحْمَلاتِهِ، ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه:
(لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً).ا.هـ من
الفرق بين النصيحة والتعيير(10).
ومثال
ذلك في ظني: أن أحد الذين ردوا على إمام من أئمة الدين في زماننا، لما رد عليه في
مسألة متفرعة عن مسألة التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان وألف كتاباً في ذلك،
جعل هذا الكتاب في مسائلَ كثيرة، وبوب لكل مسألة باباً منفرداً، ومن تأمل صنيعه
وجد كل الكتاب يدور على مسألة واحدة هي المسألة المشار إليها آنفاً، لكن بعدة
قوالب، ليستنتج القارئ أن المردود عليه قد خالف في مسائل كثيرة، وهذا من الظلم، أو
من الجهل، وكلاهما مر.
الخامس:
من آداب
وشروط الرد على المخالف أن لا يترتب على الرد مفسدة أعظم من مفسدة السكوت عن
الخطأ، فقد يخطئ الشخص في دين الله سبحانه وتعالى، وقد يظلم ويجور ومع ذلك يؤخر
الرد ويؤخر الانتصار، لأنه سيترتب على الرد والانتصار مفسدة أعظم وأعظم، ولازال
السلفيون يعيبون على خوارج العصر، الذين يجاهدون بغير إقامة شروط الجهاد لازالوا
يعيبون عليهم جهادهم هذا، لأنه يترتب على قتالهم اليوم مفسدة أعظم وأعظم مما لو
صبروا وكفوا عن القتال.
وكذلك
ينبغي على جميع السلفيين الأخذ بهذا الأصل، فإذا كان الردُ على المخالف أو
الإنكارُ عليه وقتالُه سيؤدي إلى مفسدة أعظم، فلا يجوز عند ذلك الرد على المخالف،
بل يجب على الإنسان أن يصبر إلى أن يأتي الوقت الذي تكون فيه مصلحةُ الرد راجحةً
على مفسدته.
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى: (يحسب المؤذَى إذا كان مظلوماً أن المؤذِي
محضُ باغٍ عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن ويكون مخطئاً في ذلك، إذ قد يكون
المؤذِي متأولاً مخطئاً، وإن كان ظالماً لا تأويل له، فلا يحل دفع ظلمه بما فيه شر
أعظم، بل يؤمر المظلوم بالصبر، فإن ذلك في حقه حسنة، وإنما يقع المظلوم في ذلك
لجزعه، وضعف صبره، أو لقلة علمه، وضعف رأيه، فإنه قد يَحسِبُ أن القتال ونحوه يدفع
الظلم عنه ولا يعلم أنه يزيد الشر.
والله
وصف الأئمة بالصبر فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا
يُوقِنُونَ) (السجدة:24)
وذلك
أن المظلوم وإن كان مأذوناً له في دفع الظلم عنه فذلك مشروط بشرطين:
·
القدرة
على ذلك.
·
أن
لا يعتدي.
فإذا
كان عاجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد لم يَجُزْ) أ.هـ الاستقامة
(1/39).
وقال
–رحمه الله-: إذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا
ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررًا
من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع
أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن
يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فإذا لم يمكن منع المظهر
للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا
يمكن فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره. ولهذا
كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة
والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الإقتداء فيهما بإمام فاجر لا
سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك
المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعة خلف أئمة الفجور مطلقًا معدودين عند
السلف والأئمة من أهل البدع".ا.هـ من الفتاوى (23/ 342).
وقال
-رحمه الله-: ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من
التتار والكرج ونحوهم، وأقول إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل
عن الكفر والفساد في الأرض ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة
للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو، بل قد يستحب أو يجب
دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره، فهذا في حق الكفار، ومن الفساق الظلمة من إذا
صحا كان في صحوه من ترك الواجبات وعـدمِ إعـطاء النـاس حقوقهم، ومن فعل المحرمات
والاعتداء في النفوس والأموال ما هو أعظم من سكره، فإنه إذا كان يترك ذكر الله
والصلاة في حال سكره، ويفعل ما ذكرتُه في حال صحوه، وإذا كان في حال صحوه يفعل حروباً
وفتناً لم يكن في شربه ما هو أكثر من ذلك، ثم إذا كان في سكره يمتنع عن ظلم الخلق
في النفوس والأموال والحريم، ويسمح ببذل أموال تؤخذ على وجه فيه نوع من التحريم
ينتفع بها الناس، كان ذلك أقل عذاباً ممن يصحو فيعتدي على الناس، في النفوس
والأموال والحريم، ويمنعُ الناسَ الحقوقَ التي يجب أداؤها).ا.هـ من الاستقامة
(2/167)
وقال
ابن القيم -(في إعلام الموقعين 3/4)-:إن النبي صلى الله عليه وسلم، شرع لأمته
إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار
المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان
الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه
أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا،
ما أقاموا الصلاة. وقال صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا
ينزعن يداً من طاعة، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها
من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلبَ إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه،
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع
تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورَدِهِ على
قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرتِه عليه خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم
احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في
الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
فإنكار
المنكر أربع درجات:
الأولى:
أن يزول ويخلفَه ضدُه.
الثانية:
أن يقل وإن لم يزُل بجملته.
الثالثة:
أن يخلفه ما هو مثلُه.
الرابعة:
أن يخلفه ما هو شر منه فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد،
والرابعة محرمة.
فإذا
رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة،
إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو
ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم
عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو
أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب
المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه
الأولى وهذا باب واسع.
وسمعت
شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول مررت أنا وبعض أصحابي في زمن
التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه، وقلت له إنما
حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل
النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) ا.هـ.
وهذا
مما ينبغي التنبه له في هذه الأيام، فقد يكون السني السلفي مستضعفاً فلا يستطيع أن
يقوم على أهل البدع ولا يستطيع الرد عليهم في وقت من الأوقات، أو في مكان من
الأمكنة، ويَعلمُ يقيناً أو يَغلبُ على ظنه أنه إذا رد على المخالفين سيترتب على
ذلك مفسدة أعظم وأعظم، فلا يجوز له حينئذٍ الردُ عليهم.
مثال
ذلك من الواقع: أني جئت إلى أحد المناطق فرأيت السلفيين قليلين ومستضعفين، وإذا
بهم قد قطعوا الصلة بينهم وبين رؤوس المجتمع وأعيانه، كرئيسِ المحاكم، ورئيسِ هيئة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورئيسِ جمعية تحفيظ القرآن، ومديرِ الدعوة،
وغيرِهم، بل ربما أظهروا تبديعهم وتضليلهم أو كادوا، وصاروا يعملون مع أكثرهم
بالهجر، ويظنون بهذا أنهم قد قاموا بواجب الرد على المخالف، فصار الناظر إليهم
يعلم يقيناً أنهم هم المهجورون، وصاروا كفئة منبوذة في المجتمع، فمُنِعوا بسبب ذلك
من تولي الأذان والإمامة، ومن تحفيظ القرآن، ومن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في
المساجد، ومن الأمور الخيرية اليسيرة، بل مُنعوا حتى من الشكوى، لأنهم إذا اشتكوا
وخصمهم رئيس المحكمة ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومدير الدعوة
ومدير جمعية تحفيظ القرآن، وخطيب المنطقة، من سيصدقهم من عامة الناس؟! وتوقفت بذلك
الدعوة السلفية تقريباً.
فسألتهم
عن عدد من معهم على دعوتهم؟ فقالوا: خمسة عشر تقريباً!!، وهم في مدينة كبيرة، فقلت
لهم: أنتم بهذا العدد، وليس فيكم طالب علم متمكن فضلاً عن عالم، ثم تريدون أن
تقوموا بواجب الرد على المخالفين وهجرهم ابتداءً، والانتصارَ منهم، مع ضعفكم؟!
ثم
سألتهم: ما الفرق بينكم وبين التسعة عشر الذين ضربوا برج أمريكا وهم يزعمون
الانتصارَ للمسلمين؟ الجواب: لا فرق، لأن الفريقين أرادوا استخدام القوة مع الضعف
والقلة، فأدى ذلك إلى توقف الدعوة، فالسني إذا أراد أن يرد لابد أن ينظر إلى حاله
وزمانه ومكانه والمردود عليه.
وكلامي
هنا منصب على من أرادوا القيام على المخالفين بالإنكار والرد عليهم وترتب على ذلك
من المفاسد العظيمة ما يربو على مصلحة الرد، وذلك بسبب ضعف الرادين وقلتهم، مقابل
قوة المخالفين وكثرتهم، ، ولا يدخل في ذلك من رأى ترك مخالطة المخالفين، والمبتدعة
الضالين خوفاً من أن يلبسوا عليه دينه، فهذا شيء والرد على المخالف شيء آخر، فإن
ترك مخالطة المخالفين والبعد عنهم خوفاً من تلبيسهم ممكن، دون استعدائهم وإثارتهم
بإظهار وإعلان الإنكار والرد عليهم.
قال
ابن تيمية: (من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه، بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب
الإنكار عليه، كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته ومن هجره أن لا يؤخذ
عنه العلم ولا يستشهد.
وكذلك
تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور، منهم من أطلق الإذن ومنهم من
أطلق المنع، والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن
لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا، وأن لا يقدموا في الصلاة على
المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم كل هذا من باب الهجر المشروع
في إنكار المنكر للنهى عنه، وإذا عُرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية، علم أنه
يختلف باختلاف الأحوال، من قلة البدعةِ وكثرتِها وظهورِ السنة وخفائِها، وأن
المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران أخرى، كما كان النبي صلى الله عليه و
سلم يتألف أقواماً من المشركين ممن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة،
فيعطي المؤلفة قلوبهم مالا يعطى غيرهم، كما قال في الحديث الصحيح: (إني أعطي
رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إلى من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما جعل الله في
قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم
عمرو بن تغلب)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلى منه خشية
أن يكبه الله على وجهه في النار)، أو كما قال، وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر
الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم
طريق فيستعمل الرغبة، حيث تكون أصلح والرهبة حيث تكون أصلح)ا.هـ من منهاج السنة
(1/63).
بل
قال -رحمه الله-:: "قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة أو غير مغفورة، وقد
يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم
القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد
إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل
وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج
عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك لما في طرق الناس من الظلمة.
وإنما
قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن
كمال خلافة النبوة المأمورة به شرعاً: تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علماً
وعملاً، وتارة بعدوان بفعل السيئات علماً وعملاً، وكلا من الأمرين قد يكون من
غلبة، وقد يكون مع قدرة" أ.هـ من الفتاوى (10/364).
وقال
–رحمه الله-: "وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة فلهذا اختلف حكم الشرع في
نوعي الهجرتين: بين القادر والعاجز، وبين قلة النوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته
وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم، من الكفر والفسوق والعصيان. فإن
كل ما حرمه الله فهو ظلم، إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما.
وما
أمر به من هجر الترك والانتهاء، وهجر العقوبة والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه
مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة،
وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة؛ وإن كانت
مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة.
فالهجران
قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل
حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا. وليقوى الإيمان
والعمل الصالح عند أهله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضها على فعل ضد
ظلمه من الإيمان والسنة ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء
أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمور بها، كما ذكره أحمد
عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية. فإذا عجزوا عن إظهار
العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن
الضعيف؛ ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل
البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم.
فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون
مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس،
ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل، وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من
الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله،
فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول، إنما يثبت حكمها في نظيرها.
فإن
أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب
ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون
أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها
ترك المعرض، لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي
الكاره ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها،
فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين
فعل المنكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به. فهذا هذا،
ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم" أ.هـ.من
الفتاوى (28/ 210)
وقال
–رحمه الله-: وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم،
فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كانت المصلحة في
ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور
ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على
مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض
الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي (يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة
الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعون في
عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون
سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في
العدو القتال تارة، والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال
والمصالح، وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان
يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان
والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف
مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه" ا.هـ من الفتاوى (28/ 205)
فإذا
كان الرد والانتصار من الظالم أو المخطئ يحصل به مصلحة أعظم من مفسدة السكوت عن
الخطأ وعن المنكر فيجب الرد، وأما إن كان ذلك سيسبب مفسدة أعظم، فيجب حينها ترك
ذلك كله، فإن الرضا بالمفسدة الأقل، واجب لدفع المفسدة الأعظم.
ومن
علم هذا الضابط وفهمه حق الفهم، علم الخطأ العظيم الذي يرتكبه بعض المنتسبين للسنة
والذب عنها، حينما يطلبون من كل سني سلفي على وجه الأرض أن يتخذ موقفاً واحداً: هو
موقفهم الذي اتخذوه، من الأشخاص أو الفرق أو الجماعات، مع اختلاف الأزمان والأماكن
والأشخاص والأحوال.
مع
التفطن والحذر من مزلة الشيطان في هذا الباب: فإن بعض الناس قد يجعل من طلب
المصلحة الشرعية، ودفع المفسدة شماعة يعلق عليها في الظاهر تخاذله في الرد على
المخالفين، وباطن الأمر أنه ترك ذلك حرصاً على دنياه، ومصالحه الشخصية، ودفعاً
للمفاسد الدنيوية التي ستترتب على جهاده لأعداء الله، ففتش في نفسك يا عبد الله
ولا يخدعنَّك الشيطان، فكم رأينا من المتَوَلِـين يوم الزحف عن مواطن الجهاد، بشبه
وهمية، ألبسوها لباس الحجج الشرعية واللهُ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا
تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).
فصل:
في بعض الشبهات أو الأخطاء في الرد على المخالف:
الشبهة
الأولى:
أنه لا يجوز الرد علي المنتسبين لأهل القبلة حين تسلط الكفار، ونحن الآن في معركة
مع الكفار فلابد أن نبدأ بالعدو الخارجي قبل أن نرد على المخطئ الداخلي، من أهل
الإسلام، ويقولون: إن شيخ الإسلام خرج مع الأشاعرة ومع المعتزلة ومع غيرهم في قتال
الكفار، فينبغي أن نقف مع هؤلاء صفاً واحداً ضد الكفار، وندع الرد عليهم، والذي
تولى كبر الترويج لهذه الشبهة الأخوان المسلمون وأتباعهم، ومنهم صلاح الصاوي في
كتابة الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي.
والجواب
عن هذه الشبهة من وجوه:
أولاً:
ما حال النبي r حين
تسلط الكفار؟! هل ترك المخالفين ولم يرد عليهم من أجل تسلط الكفار؟! روى الترمذي
بإسناد صحيح من حديث أبي وأقد الليثي t قال خرجنا مع النبي r إلى حنين وللمشركين سدرة ينوطون بها أسلحتهم ويعكفون عندها
يقال لها ذات أنواط، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط،
فقال r: سبحان الله! إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون"
لتركبن سنن من كان قبلكم، فلم يقل النبي r: نحن خارجون للقتال، ونحن على مقربة من الكفار والمشركين،
دعونا ننتهي من المشركين والكفار ثم بعد ذلك نرد عليهم، كلا، بل بدأ بهم النبي r، لأن النبي r يعلم أنه لو قابل الكفار مع هذا الاعتقاد الفاسد عند بعض
المقاتلين، فقد يكون هذا الاعتقاد الفاسد هو سبب هزيمة المسلمين.
ثانياً:
أن تسلط الكفار على المسلمين أو بعضهم لم يتوقف منذ بُعث النبي r إلى اليوم، ولازم قولهم أن لا نقوم بواجب الرد علي المخالف
منذ بعث الرسول r
إلى يومنا هذا.
ثالثاً:
أن المخالفة في دين الله من أسباب تسلط الكفار، وبالمقابل إن من أعظم أسباب دفع
الكفار إصلاح المخالف، فكيف نرجو من الله عز وجل أن يدفع عنا الكفار وبعض من معنا
وفينا من المنتسبين للإسلام من يستغيث بغير الله، ومنهم من يذبح لغير الله، ومنهم
من ينذر لغير الله، ومنهم من يرد ويستهزئ بسنة رسول الله r -والعياذ بالله-، كيف سينصرنا الله عز وجل مع وجود هذه
المخالفات العظيمة، ومعلوم أن المسلمين هزموا يوم أحد، ويوم حنين بسبب مخالفة
واحدة من بعضهم، فنحن والمخالفون في سفينة واحدة فإن تركناهم يخرقونها واشتغلنا
بالعدو غرقنا جميعاً ، وإن أخذنا على أيديهم نجونا جميعاً، كما في حديث النعمان بن
بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مثل القائم على حدود
الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم
أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو
أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا،
وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)).
وقال
الشيخ ابن باز –رحمه الله- في رده على الصابوني الذي يرى أن سكوت كل فرقة من
فرق المسلمين عن الأخرى هو الحل لنجتمع ضد العدو الخارجي- فرد عليه قائلاً:
الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه
وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم
ضد أعدائهم. أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى
فيما هي عليه من الحق فهذا هو المحذور والمنهي عنه وهو سبب تسليط الأعداء على
المسلمين , واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق , أما من
تمسك بالحق ودعى إليه وأوضح بطلان ما خالفه فهذا لا لوم عليه بل هو مشكور وله
أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته للحق.أ.هـ من مجموع الفتاوى للشيخ (3/100)
رابعاً:
قد أخذ الله العهد والميثاق على أهل العلم بالبيان، وعدم كتم العلم، وتوعد الله
بالوعيد الشديد على من خالف ذلك، ومن ذلك الرد على من أخطأ في دين الله، قال
تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران:187)، قال ابن باز رحمه
الله: (لو سكت أهل الحق عن بيان الحق لاستمر المخطئون على أخطائهم، وقلّدهم غيرهم
في ذلك، وباء الساكتون بإثم الكتمان الذي توعّدهم الله في قوله سبحانه: ((إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ
وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))
(البقرة: 159،160)، وقد أخذ الله على علماء أهل الكتاب الميثاق لتبيننه للناس ولا
تكتمونه، وذمّهم على نبذه وراء ظهورهم، وحذرنا من اتّباعهم، فإذا سكت أهل السنة عن
بيان أخطاء من خالف الكتاب والسنة شابهوا بذلك أهل الكتاب المغضوب عليهم والضالين)
اهـ من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن باز (3/72).
خامساً:
أنه لا تلازم بين قتال الكفار، وترك الرد على المبتدعة والضلال والمخالفين، بل
إننا إذا أعاننا الله عز وجل وهيأ لنا من السبل والقدرة، فإننا نستطيع بإذن الله
أن نرد تسلط الكفار مع الرد على المخالفين من أهل الإسلام.
وأخيراً
يقولون: إن شيخ الإسلام خرج مع الأشاعرة ومع المعتزلة ومع غيرهم في قتال الكفار،
فينبغي أن نقف مع هؤلاء صفاً واحداً ضد الكفار، وندع الرد عليهم، فالجواب من
وجهين:
الأول:
أن ابن تيمية اعتزل فترة من الزمن قتال التتار لِمَا رأى -رحمه الله- من مظاهر
الشرك والمخالفة لدين الله تعالى حين القتال، وقال في بيان ذلك -في كتابه الرد على
البكري/377-: حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون
بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا
خائفين من التتر *** لوذوا بقبر أبي عمر
عوذوا
بقبر أبي عمر*** ينجيكم من الضرر
فقلت
لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من
انهزم من المسلمين، يوم أحد فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك،
ولحكمة كانت لله عز وجل في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين لم يقاتلوا في تلك
المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِما يحصل في ذلك من الشر
والفساد، وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة
لمن عرف هذا وهذا. انتهى كلامه رحمه الله.
الوجه
الثاني في الرد عليهم: لو سلمنا لهم أن شيخ الإسلام خرج مع الأشاعرة والمعتزلة
والجهمية والصوفية، فهل سكت شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم؟! كلا بل أكثر كتب شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى كانت في الرد عليهم وأمثالهم، فليقوموا بمثل ما قام به
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
الشبهة
الثانية: من
الشبهات المتعلقة بالرد على المخالف قولهم: لا تصح الشدة، أوتسمية المخالف
حين الرد.
والجواب:
أن الأصل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرفق واللين كما قال سبحانه وتعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل
عمران:159)، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
هذا
هو الأصل، لكن قد يترك هذا الأصل عند الحاجة، فيشدد على المخالف ويسمى باسمه من
أجل أن يحذره الناس، فإن الذي أمرنا بالرفق مع المخالف هو سبحانه الذي أمرنا
بالشدة على بعض المخالفين إلى درجة القتل، وأي شدة أعظم من قتل المخالف؟! قال
سبحانه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ)(الحجرات: من الآية9) وهذه الطائفة ليست كافرة ولا مبتدعة بل قد
تكون من أهل السنة، لكن فيها بغي وجور وظلم، فأمر الله عز وجل بقتالها، وفي صحيح
مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
رَجُلاَنِ فَخَلَوَا بِهِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لاَ أَدْرِى مَا هُوَ
فَأَغْضَبَاهُ فَسَبَّهُمَا وَلَعَنَهُمَا وَأَخْرَجَهُمَا صلى الله عليه وسلم،
وهجر النبي r بعض
الصحابة خمسين ليلة كما في قصة كعب من مالك وصاحبيه y، ولما جاء أسامة إلى النبي r وقد قتل رجلاً بعدما قال (لا إله إلا الله) قال له النبي
صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع أسامة فسماه النبي r، ولما قام ذو الخويصرة وعاب على النبي r قسمته قال النبي r وهو يشير إليه: يخرج من ضئضئ (هذا) أناس يحقر أحدكم
صلاته إلى صلاتهم..." فعيَّنه النبي r، ولم يكتف بالتلميح عن التصريح.
قال
الشاطبي –رحمه الله-في رد هذه الشبهة السقيمة: (حين تكون الفِرقَة تدعو إلى ضلالتها،
وتزينها في قلوب العوام، ومن لا علم عنده؛ فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس،
وهم من شياطين الإنس؛ فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدع والضلالة، ونسبتهم إلى
الفرق إذا قامت الشهود على أنهم منهم، فمثل هؤلاء لابد من ذكرهم، والتشريد بهم؛
لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تُرِكوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم
والتنفير منهم؛ إذا كان سبب ترك التعيين هو الخوف من التفرق والعداوة.ولا شك أن
التفرق بين المسلمين، وبين الداعين إلى البدعة وحدهم إذا أقيم عليهم، أسهل من
التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم، وإذا تعارض الضرران
فالمرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة؛ إتلافها
أسهل من إتلاف النفس. وهذا حكم الشرع أبداً، يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل).ا.هـ
من الاعتصام (2/228-229)
فالأصل
الرفق واللين وعدم التسمية، لكن الذي أمرنا بالرفق واللين أمرنا أيضاً بالشدة
حينما يُحتاج إليها، وبهذا الأصل عمل الصحابة y فإن صبيغاً لما قام يتكلم بالمتشابه من القرآن جلده
عمر t، روى الدارمي: (أن صبيغًا جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد
المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو ابن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه
الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب
فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة، فأرسل عمر إلى رطائب
من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برئ، ثم عاد له، ثم تركه حتى
برئ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا،
وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت. فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى
الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر
أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس لمجالسته)، وهل فعل عمرt هذا إلا من الشدة على المخالف.
وعن
عقبة بن علقمة قال: (كنت عند أرطأة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس: ما تقولون في
الرجل يجالس أهل السنّة ويخالطهم، فإذا ذكر أهل البدع قال: دعونا من ذكرهم لا
تذكروهم، قال: يقول أرطأة: هو منهم لا يلبّس عليكم أمره، قال: فأنكرت ذلك من قول
أرطاة، قال: فقدمت على الأوزاعي، وكان كشّافاً لهذه الأشياء إذا بلغته، فقال:صدق
أرطأة والقول ما قال، هذا يَنهى عن ذكرهم، ومتى يُحذروا إذا لم يشد بذكرهم!) من
تاريخ دمشق (8/15).
فلا
تعاب الشدة على المخالف وتسميته إلا إذا لم يكن لذلك حاجة، أو ترتب على الشدة أو
التسمية مفسدة أعظم من ترك ذلك، قال ابن تيمية -رحمه الله-: المؤمن للمؤمن كاليدين
تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من
النظافة والنعومة، ما نحمد معه ذلك التخشين.ا.هـ من الفتاوى (28/53)
قال
الشيخ شمس الدين السلفي الأفغاني
–رحمه
الله في كتابه جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (3/1761)-: التشبث
بشبهة الشدة دأب
عامة
المثلجين المثبطين المسالمين لأهل البدع، فهم قديما وحديثاً يتهمون أهل التوحيد والسنة والحديث بالشدة
والعنف والتطرف وسوء الأدب، مع أنهم أشد الناس على أهل
التوحيد وألينهم لأهل البدع ولنعم ما قيل في الرد
على هؤلاء المثلجين المتشبثين بشبهة الشدة:
ولو
كان تشديداً بيان كتابه*** وإظهار قول للنبي محمد
فإني
بحمد الله ربي مشددٌ*** هلم شهوداً فاشهدوا كل
مشهد
الشبهة
الثالثة:
تعظيم رد المخالفات الشهوانية، التي دافعها الشهوة، والتزهيد في رد المخالفات
الشبهاتية، التي دافعها البدعة، فترى بعضهم إذا ذكرت له المنكرات الشهوانية جثى
على ركبتيه، كما لو قلت له: إن في الشارع نساءً سافراتٍ وقد اجتمعن لقيادة
السيارة، فماذا تراه يفعل؟ قد يفجر نفسه بين النساء، من شدة إنكاره وبغضه وتعظيمه
لهذا المنكر، لكن قل له: إن (فلاناً المفكر الإسلامي) يسب موسي u، ويسب بعض الصحابة y، ويرى أن الله عز وجل إنما بعث رسوله للحاكمية، ولا يرى
إنكار سب الله، وسب رسول r، حتى تقوم الدولة الإسلامية، ويرى أن الكلام في مسائل
الإيمان سفسطة لا طائل وراءها، ولا يفرق بين الربوبية و الإلوهية، وغيرها من أصول
أهل السنة التي ينقضها، تقول له كل ذلك ثم لا يتحرك فيه ساكن، لأنه رُبِي على
تعظيم منكرات الشهوات، واستصغار منكرات الشبهات، ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس إذا
رأى كتب الردود على أهل البدع قال: لقد أضاعوا أوقاتهم، لو قرأ صاحب الرد حزبا ً
من القرآن لكان خيراً له، وأما إذا رأى الذين ينكرون الزنى والتبرج والخمور،
فيقول: هؤلاء أبطال الإسلام، وهؤلاء حماة السفينة من الخرق والغرق، والجواب: أن
هؤلاء الذين ينكرون الشهوات على خير، وهم قائمون عنا بفرض من فروض الكفايات وهو
الإنكار في باب الشهوات، فنسأل الله أن يعينهم وأن يثبتهم وأن يوفقهم ويكفيهم شر
الأشرار وكيد الفجار.
لكن
ثمَّ من أولياء الله من هو أفضل من أولئك، وهم الذين انتصبوا للرد على المخالفين
من أهل البدع في أمور الشبهات، فينبغي لمن يعظم أمور الشهوات أن يعظم أكثر وأكثر
أمور الشـبهات، وأن يعظم وأن يحب أكثر وأكثر من يردون على الشـبهات، قال شيخ
الإسلام ابن تيمـية -رحمه الله-"إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية
بالسنة والإجماع" ا.هـ من مجموع الفتاوى (20/ 103)، وقال ابن القيم -رحمه
الله –:"واشتد نكير السلف والأئمة لها –أي للبدعة- وصحوا بأهلها من أقطار
الأرض وحذَّروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار
الفواحش، والظلم، والعدوان، إذ مضرة البدع، وهدمها للدين ومنافاتها له
أشد".ا.هـ من مدارج السالكين (1/372).
وتعظيم
البدعة على المعصية لأمور عدة منها:
أولا
ً: أن صاحب الخطأ الشهواني لا ينسبه إلى دين الله، فعصاة المسلمين الذين يشربون
الخمور ويزنون لا يقولون هذا من دين الله سبحانه وتعالى، بخلاف أصحاب الشبهات
فإنهم ينسبون باطلهم إلى الله ودينه.
ثانيا
ً: أن أصحاب الذنوب الشهوانية يرجى رجوعهم بإذن الله تعالى، إذا ذكروا بالله
وبالموعظة الحسنة، أما المبتدع ففي الغالب كلما ذُكر ونوصح كلما زاد واشتد في
البدعة والعياذ بالله، وعلى هذا يحمل الأثر "إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب
البدعة"، أي إن المبتدع لا يوفق في الغالب إلى التوبة، لأنه يرى صواب نفسه،
قال ابن تيمية –رحمه الله-: "قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها،
ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله
ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن
أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب
أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا
يتوب".ا.هـ من مجموع الفتاوى (10/9-10).
الشبهة
الرابعة:
أن الردود تقسي القلوب فلا ينبغي للإنسان أن يشتغل بها.
والجواب:
أن من علم أن الرد من دين الله سبحانه وتعالى، علم أنه عبادة أمرنا الله بها، بل
هو من أفضل العبادات كما تقدم، والقلب إنما يصلح بعبادة الله سبحانه وتعالى، فالرد
إذا كان رداً مشروعاً، فهو يصلح القلب ويرقق القلب، ولا يقسي القلب -والعياذ
بالله- والذي يقول هذه الكلمة يخشى على دينه، لأن لازمها أن عبادة الله تقسي
القلب، ولازم ذلك أن يقولوا: إن أهل الحسبة الذين يعملون في هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، قلوبهم قاسية، وينبغي لهم أن يدعوا العمل في هيئة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن كثراً من عملهم إنكار المنكرات وهل إنكار المنكرات
إلا رد على المخالفين، فهل سمع أحد بهذا؟ كلا، لأن القائلين بذلك إنما يقصدون بذلك
الذين يردون على المخالفين في الشبهات، وقد سئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله عن
هذا المقولة: فقال: (بل ترك الردود هو الذي يقسي القلوب) انتهى، لأن القلب إنما
يرق ويحصل له النور بالحق فإذا غشيه الباطل، ولم يأت من يجلي هذه الظلمة وهذا
الباطل وهذه الغشاوة، فسيحصل للقلب قسوة وغلظة -والعياذ بالله-، فأهل الردود الذين
يردون على الباطل رداً مشروعاً إنما يرققون بذلك قلوبهم لأنهم يعبدون الله بذلك.
الشبهة
الخامسة:
أنه لا يصح أن يتفرغ أو يتخصص أحدٌ في هذا الباب، وهو باب الرد على المخالف،
فعندما يرون بعض أهل العلم قد سخره الله سيفاً مسلولاً على أهل البدع مثل الشيخ المجاهد
حمود التويجري -رحمه الله تعالى-، ومثل الشيخ المجاهد ربيع بن هادي المدخلي -حفظه
الله-، يقولون: هذا ليس عنده إلا الردود.
والجواب:
لو سلمنا أن هؤلاء العلماء ليس لهم شغلٌ إلا الرد على المخالف، فهل يعاب
أحدٌ بذلك؟!
لو
أن إنساناً فتح الله له في الجهاد فصار أكثر أعماله الجهاد في سبيل الله -إذا كان
مشروعاً- هل يسوغ أن يعيبه أحد بذلك؟!
وكذا
أهل الحسبة في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-نسأل الله أن يعينهم-
هل يسوغ أن يعيب عليهم أحدٌ اشتغالهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
وكذلك
إذا قام إنسان وانتصب للتأليف والتعليم هل يسوغ أن يعيبه أحد بذلك؟!
كلا،
لا يسوغ أن يُعاب أحد قام بشيء من تلك الأبواب، بشرط: أن من قام بباب من تلك
الأبواب، لا يعيب على غيره القيام بباب آخر، فالذي يقوم بالتأليف والتعليم لا يعيب
على من يقوم بالدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-.
والذي
يدعو إلى الله على بصيرة لا يعيب على من هو قائم على الفقراء والأيتام والأرامل
والمساكين.
والقائم
على الفقراء والأيتام والمساكين لا يعيب على من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر في أمور الشهوات.
والذي
يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمور الشهوات لا يجوز له ولا لأحد غيره
أن يعيب على من يقوم بإنكار الشبهات.
قال
ابن عبدالبر في التمهيد: إن عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على
الانفراد والعمل.
فكتب
إليه مالك: إن الله قسم الإعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم
يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في
الجهاد.
فنشر
العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما
أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر).ا.هـ من التمهيد(7/185) ونقله الذهبي
في سير أعلام النبلاء (8/114)
فكل
من يعيب الذين انتصبوا للرد على المخالفين يلزمه أن يعيب أهل الجمعيات الخيرية،
وأهل التحفيظ، وأهل الدعوة والمشتغلين بالعلم والتعليم وأن يعيب هيئات الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن كل واحد من هؤلاء قام بشيء من فروض الكفايات، وهذا
باطل قطعاً.
الشبهة
السادسة:
أنه لابد في الردود من الموازنات، فمن رد على شخص فلابد أن يذكر حسنات المردود
عليه، ويذكر سيئاته، وإذا لم يفعل ذلك فهو ظالم جائر، ويستدلون بقوله تعالى:
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
(آل عمران:75) قالوا: إن الله -عز وجل- لما ذكر أهل الكتاب ذكرهم بعدل وإنصاف،
فذكر أن منهم من يخون، ومنهم من يؤدي الأمانة، فيجب على كلى من رد على المخالفين
أن يذكر الحسنات والسيئات للمردود عليه، ويذكرون أيضاً غير هذا من الأدلة التي
توجب العدل وتحرم الظلم كقوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ
ذَا قُرْبَى)(الأنعام: من الآية152). ومما يتعلقون به العبارات التي ينقلونها عن
السلف الصالح في وجوب العدل والإنصاف مع المخالفين ومن ذلك قول ابن تيمية:
"كثيراً ما يجتمع في الشخص الواحد الأمران -أي الحسنات والسيئات-، فالذم
والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر،
كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من الأمر
الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما
حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة،
ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان" ا.هـ من
مجموع الفتاوى (10/365-366).
والجواب: أن
الكلام عن الأشخاص والفرق والجماعات لا يخلو من أمرين:
الأول: أن
يكون للتحذير منهم أو من خطئهم، وهذا هو مقام الرد على المخالفين، ففي هذه الحال
لا يسوغ ذكر حسنات المردود عليهم، لأن ذلك ينافي التحذير من الوقوع في أخطئهم، بل
إن ذكر حسناتهم قد يغري الجاهل بالوقوع في أخطائهم وتقليدهم فيها، قال النقاد
البصير عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله-: إن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في
نفوسهم والغلو في ذلك،... فإن زاد المنكرون –أي المنكرون لخطأ المتبوع- فأظهروا
حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه، خطب عمار بن ياسر في أهل العراق
قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال: ((والله إنها لزوجة
نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك
وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي)) أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي
مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير
من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً ((فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار))،...
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى
أنه ليس لهـم اتباعهم فيه إما لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ، أطلق
كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل، لكي يكف الناس عن الغلو الذي يحملهم على
اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه... ومنه ما وقع في كلام الشافعي في بعض المسائل
التي خالف فيها مالكاً، من إطلاق كلمات فيها غض من مالك، مع ما عرف عن الشافعي من
تبجيل أستاذه مالك، حتى روى حرملة عن الشافعي أنه قال ((مالك حجة الله على خلقه
بعد التابعين))، ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه، مما يظهر منه الغض
الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن
مسلم تبجيله للبخاري.ا.هـ من التنكيل (1/85).
ولو
تأمل العاقل ذلك لوجده الحق الذي ليس عنه محيد، ومن قال بوجوب ذكر الحسنات حين
الرد على المخالف وتشرب قلبه هذه الشبهة: ليتصور خطيب الجمعة أو الناهي عن المنكر
كلما أراد أن يحذر من العلمانيين أو اللبراليين، أو من الفساق الماجنين، أو من
الكتاب الملحدين، أو من الكفار المحاربين والمحادين لله ورسوله الأمين، هل يسوغ له
أن يبدأ خطبته قبل التحذير منهم ومن أخطائهم بقائمة طويلة من الثناء على أولئك
النتنا والمأفونين، وذكر حسناتهم وسجاياهم الكريمة! هل يسوغ ذلك في عقل أو ذوق أو
عرف، فضلا عن الشرع الحكيم؟!.
وبعد
أن تقرر ذلك لابد أن يعلم أن عدم ذكر الحسنات حين الرد هو الأصل، إلا إذا عَلِم
الرادُ والـمُنكِـرُ أنه سيترتب على عدم ذكر الحسنات مفسدة أعظم من مفسدة ذكر ها،
كرد الحق كله، أو القيام على صاحب الحق ورده عن دعوته بالكلية، وهذا كمن يكون في
أرض كثر فيها أهل البدع وتغلبوا، وقلَّ فيها أهل الحق واستُضعِفوا، فيلجأ الراد
والـمُنكِـر إلى ذكر شيء من حسنات المردود عليه، ليتوصل بذلك إلى مداراة
المخالفين، وإسماعهم الحق.أو ترتب على ذكر الحسنات مصلحة أعظم من مصلحة كتمها،
كقبول صاحب البدعة أو الخطأ وتوبته، فهنا لا بأس أن تذكر حسناته.
قال
ابن تيمية -رحمه الله-: "قد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة
المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملاً، فإذا لم
يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الإنسان في
الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة
فيه. وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك لما في
طرق الناس من الظلمة.
وإنما
قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن
كمال خلافة النبوة المأمورة به شرعاً: تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علماً
وعملاً، وتارة بعدوان بفعل السيئات علماً وعملاً، وكلا من الأمرين قد يكون من
غلبة، وقد يكون مع قدرة" ا.هـ من الفتاوى (10/364).
وقال
الشيخ ابن باز –رحمه الله-: الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة
بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات
المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو
المنكر منه، تذكيراً له بأعماله الطيبة، وترغيباً له في التوبة فذلك حسن، ومن
أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة.ا.هـ من فتاوى الشيخ (9/279) وعلى هذا يحمل
ما يوجد في كلام بعض أهل السنة من ذكر حسنات المردود عليهم.
الحالة
الثانية
-للكلام عن الأشخاص والفرق والجماعات-: سوى ما تقدم، كالترجمة، وكتابة التاريخ، أو
الاعتذار لأهل العلم عن ما وقعوا فيه من هنات وزلات، أو المقارنة بين الأشخاص
والفرق في قربها وبعدها عن الحق، فهنا يمكن أن تذكر الحسنات، إذ المقام ليس مقام
تنفير من الخطأ أو من صاحبه، ومن ذلك قول ابن تيمية: "ومعلوم باتفاق المسلمين
أن من هو دون الأشعرية، كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون الإسلام، ويحرمون ما وراءه،
فهم خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بدين الإسلام واليهود والنصارى، فكيف
بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة كالأشعرية والكرامية والسالمية،
وغيرهم ؟ فإن هؤلاء مع إيجابهم دين الإسلام وتحريمهم ما خالفه، يردون على أهل
البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة، كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية،
ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل، فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين
واليهود والنصارى، خير من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم، فكيف بمن جعله خيراً من
طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى الذب عن أهل السنة والجماعة" [الصفدية 1/270]
وعلى هذا النوع تحمل الآية الكريمة التي استدلوا بها.
وهذه
نقول عن بعض علماء العصر في تقرير هذا الأصل: قال ابن عثيمين -رحمه الله-: (عندما
نريد أن نقوِّم الشخص، فيجب أن نذكر المحاسن والمساوئ، لأن هذا هو الميزان العدل وعندما نحذر من خطأ شخص فنذكر
الخطأ فقط، لأن المقام مقـام
تحذير،
ومقام التحذير ليس من الحكمة فيه أن نذكر المحاسن، لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن
السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال).ا.هـ من لقاءات الباب المفتوح (3/455-456)
أعدها
الدكتور عبد الله الطيار.
وقال
الألباني -رحمه الله-: (النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقَد
فيترجمه تاريخياً، فهنا لابد من ذكر ما يحسن وما يقبح فيما يتعلق بالمترجم، من
خيره ومن شره، أما إذا كان المقصود من ترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة
عامتهم الذين لا علم لهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال
ومثالب الرجال، بل قد يكون له سمعة حسنة ومنزلة مقبولة عند العامة لكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو
خلق سيئ، وهؤلاء العامة لا
يعرفون شيئا مـن ذلك عن هذا
الرجل،
حينذاك لا تأتي هذه
البدعة
التي سميت اليوم
الموازنة،
ذلك لأن المقصود من ذاك النصيحة
وليس الترجمة الوافية الكاملة،ومن
درس السنة والسيرة النبوية لا
يشك في بطلان إطلاق هذا
المبدأ
المحدث اليوم وهو
الموازنة لأننا نجد في عشرات النصوص
من أحاديث الرسول صلى الله
عليه
وسلم يذكر السيئة
المتعلقة بالشخص للمناسبة التي تستلزم النصيحة ولا تستلزم تقديم الترجمة الكاملة
للشخص الذي يراد النصح فيه).ا.هـ من شريط بدعة
الموازنة.
الشبهة
السابعة:
أن الردود تُحدث الاختلاف وتفرق الأمة، فلا بد من تركها من أجل الاتفاق والاجتماع،
حتى بلغ الحد بأحدهم أن يقول في محاضرة له بعنوان (كلمة في جمع الكلمة) بما معناه:
ينبغي أن نستفيد من النموذج الإسرائيلي، لأنه مجتمع يوجد فيه الغلاة والـمُفَرطون
ويوجد فيه المعتدلون ومع ذلك استطاعوا إقامة دولة واحدة، فينبغي للمسلمين أن
يستفيدوا من هذا النموذج، بمعني أن يجتمع المسلمون ولو كان فيهم غلاة وجفاة ومن هم
على الوسط عليهم أن يجتمعوا ويدعوا التفرق ويقصدون بالتفرق الرد على بعضهم،
والجواب من وجوه:
أولاً:
هذا الذي يطالبون به، ويثنون به على اليهود ويريدون من المسلمين أن يفعلوا مثل فعل
يهود، هو عينه الذي ذم الله به اليهود في كتابه فقال: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(الحشر: من
الآية14)، قال الشيخ بكر أبو زيد –رحمه الله-: (ونعيذ بالله كل مسلم من
تسرب حجة يهود، فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب، ومع هذا يظهرون الوحدة
والاجتماع وقد كذبهم الله تعالى فقال سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ
شَتَّى) (الحشر: من الآية14)، وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله: {كَانُوا
لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(المائدة:79)، فلا بد لشدة الاعتقاد الإسلامي الصافي من كل شائبة: من كشف زيوف
العداء والاستعداء، وحراسة الصف من الداخل كحراسته من العدو الخارج سواء
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من
الآية103)، فنحن ولله الحمد على أمر جامع في الاعتقاد على ضوء الكتاب وسنة النبي
عليه الصلاة والسلام، فلابد من لازم ذلك بالذب عن الاعتقاد، ونفي أي دخيل عليه،
سيراً على منهاج النبوة، وردعاً "لخفراء العدو"، واستصلاحاً لـهم).ا.هـ
من الرد على المخالف.
ثانياً:ً
أهل السنة أهل اجتماع وليسوا أهل تفرق، والذي يفرق إنما هم أهل البدع، فإن الحق
الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الصراط المستقيم، وهو خط واحد فخرج
عنه المخالفون وصاروا بذلك من أهل التفرق والاختلاف المذموم، فعن عبد الله بن
مسعود قال خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا ثم قال « هذا سبيل الله ثم
خط خطوطا عن يمينه وعن شماله - ثم قال - هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو
إليه ». ثم قرأ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) رواه أحمد، فالذي يأمر أهل البدع بالرجوع
إلى الحق الذي عليه أهل السنة، لا يفرق الناس بل يأمر الناس بالوحدة، لأن الناس
لما تفرقوا عن أهل السنة صاروا اثنتين وسبعين فرقة والذي يأمرهم بالسنة، ويرد على
المخالفين هو الذي يجمعهم ويقول يا ناس كونوا جماعة واحدة هي جماعة أهل السنة فهذا
هو الذي يجمعهم وليس هو الذي يفرقهم.
ثالثاًً:
أن الله أمرنا بالاجتماع، لكن لم يأمرنا بمطلق الاجتماع، بل أمرنا بالاجتماع على
دينه الحق، كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103)، ونهانا عن الاختلاف،
وهو نوعان، كما قرره ابن تيمية وابن القيم، قال ابن تيمية –رحمه الله-: "الاختلاف
في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذموماً كقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)(البقرة: من الآية176)، والثاني
أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(البقرة:253)".ا.هـ من منهاج السنة (5/134)، وقال:
"فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمدٌ لإحدى الطائفتين وهم
المؤمنون وذمٌ للآخرى".ا.هـ من اقتضاء الصراط (1/40) ومعنى ذلك أن السني إذا
دعا إلى الحق والسنة في بيئة اجتمع أهلها على الباطل والبدعة، فوقع بسببه الخلاف
بينهم، فانصاع بعضهم للهدى ودين الحق، وأعرض البعض
الآخر، فلا تعاب الطائفتان بسبب هذا الاختلاف، بل الاختلاف هنا من النوع الثاني
الذي قرر فيه ابن تيمية: أن إحدى الطائفتين تحمد وهي التي اتبعت الحق، وأما الأخرى
فتذم لأنها أعرضت عن الحق، ومثل ذلك السني الذي تسبب في هذا الاختلاف يحمد ولا
يذم، ومن تأمل دعوة الأنبياء وأتـْبـَاعهم من المجددين، وتأمل الاختلاف الذي
يقع بين أقوامهم بسببهم، علم أنه هو تماماً ما يعيب به أصحاب هذه الشبهة الردية
على أهل السنة، لذلك وصفت الملائكةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم الذي بذلك كما في
صحيح البخاري من حديث جابر: (محمدٌ فرَّق بين الناس). قال في مرقاة المفاتيح: "روي
مشددا على صيغة الفعل ومخففاً على المصدر، كذا قاله الطيبي، وقال السيد جمال
الدين: مصدر وصف به للمبالغة أي فارق بين المؤمن والكافر والصالح
والفاسق".ا.هـ فهل يقول مؤمن -بعد ذلك- فضلاً عن عالم: إنه ينبغي ترك ذلك حتى
لا يقع الناس في الاختلاف؟!.
ومن
تأمل ما تقدم وتدبره ببصيرة وعدل علم أن الذي يقول لأهل السنة: لا تردوا على أهل
الباطل ولا تُشغِلوا المسلمين بالردود هو الذي -في الحقيقة- يفرقهم ويوقع بينهم الاختلاف المذموم.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في رده على الصابوني: ثم دعا-أي
الصابوني- في مقاله الرابع إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية وتضافر الجهود ضد
أعداء الإسلام , وذكر أن الوقت ليس وقت مهاجمة لأتباع المذاهب ولا للأشاعرة ولا
للإخوان حتى ولا للصوفيين. والجواب أن يقال: لا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد
صفوفهم وجمع كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام كما
أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا) وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الآية. ولكن
لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا
ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية أو غيرهم، بل مقتضى الأمر
بالاعتصام بحبل الله أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ويبينوا الحق لمن ضل
عنه أو ظن ضده صوابا بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه ,
وهذا هو مقتضى قوله سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وقوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ومتى سكت أهل الحق عن بيان
أخطاء المخطئين وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى
الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت
عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه والمخالف للحق على خطئه وذلك خلاف ما شرعه
الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي.ا.هـ من فتاوى
الشيخ (3/105).
ثالثا ً: كيف يأمرون أهل السنة بالسكوت ويرون أهل البدع يتكلمون ولا
أحد يسكتهم؟! أيريدون من أهل السنة أن يسكتوا عن داعية القبورية ومجدد ملة عمرو بن
لحي الوثنية: علي الجفري؟! فهل سكت الجفري عن أهل السنة والتحريش ضدهم حتى
يسكتوا؟!.
أيريدون من أهل السنة أن يسكتوا عن داعية الصوفية، والطرق
البدعية عبد الله فدعق – في الديار الحجازية- وعن سعيه الحثيث لنشر
بدعته، حتى بلغت به الجرأة بأن يطالب بكرسي في الحرم لنشر بدعه ومخالفاته والعياذ
بالله؟وبالمقابل يذهب من تولى كبر هذه الشبهة لزيارته
ويحضرون مجالسه ودروسه، ولقد صدق فيهم الأوزاعي لما سئل عن رجل يقول: "أنا
أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع!" فقال الأوزاعي: "هذا رجل يريد أن
يساوي بين الحق والباطل" رواه ابن بطة في الإبانة.
أيريدون
من أهل السنة أن يروا طارق السويدان يتاجر بالدين ويفسد الملة بالشبهات والشهوات
عبر قناته الرسالة وغيرها، فيخلط المشرك مع الموحد، والمبتدع مع بعض المنتسبين
للسنة، ويظهرهم للناس على أنهم شيء واحد. ثم يقال لأهل السنة: اسكتوا عن أخطائهم،
ولا تحذروا منهم، بل وتعاونوا معهم، فبربكم إلى متى؟! أإلى أن ينصهر أهل
السنة في أهل البدع، ويُعظِم عوامُ أهل السنة رؤوسَ أهل البدع؟ أم إلى أن يتحول
أهل السنة إلى قبوريين وصوفيين وعقلانيين!! فإن قيل لا يمكن أن يحصل ذلك، فالجواب:
هو ما في السير في ترجمة ابن عقيل، حيث نَقل عنه الذهبي قوله: "كان أصحابنا
الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء –يعني من أهل البدع- وكان ذلك يحرمني
علماً نافعاً"! فعلّق الذهبي بقوله: "كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة
ويأبى، حتى وقع في حبائلهم، وتجسّر على تأويل النصوص، نسأل الله
السلامة".ا.هـ هذا مع علم ابن عقيل وذكائه، فكيف بالعامي مع جهله وسذاجته؟!
وقال
ابن القيم -عن سرعة رواج البدع ورؤوسها على العامة-: "إنك لا ترى شيئاً من
المذاهب الباطلة، والآراء الفاسدة المستخرجة بالتأويل قوبل الداعي إليه الآتي به
أولاً بالتكذيب له والرد عليه، بل ترى المخدوعين المغرورين يجفلون إليه إجفالاً
ويأتون إليه أرسالاً، تؤزهم إليه شياطينهم ونفوسهم أزاً، وتزعجهم إليه إزعاجاً،
فيدخلون فيه أفواجاً، يتهافتون فيه تهافت الفراش في النار، ويثوبون إليه مثابة
الطير إلى الأوكار، ثم من عظيم آفاته: سهولة الأمر على المتأولين -يعني المبتدعة-
في نقل المدعوين عن مذاهبهم وقديم اعتقادهم إليهم، ونسخ الهدى من صدورهم، فإنهم
ربما اختاروا للدعوة إليه رجلاً مشهوراً بالديانة والصيانة، معروفا بالأمانة وحسن
الأخلاق، جميل الهيئة فصيح اللسان، صبوراً على التقشف والتزهد، مرتاضاً لمخاطبة
الناس على اختلاف طبقاتهم، ويتهيأ لهم مع ذلك من عيب أهل الحق والطعن عليهم
والإزراء بهم ما يظفر به المفتش عن العيوب، فيقولون للمغرور المخدوع وازن بين
هؤلاء وهؤلاء، وحكم عقلك وانظر إلى نتيجة الحق والباطل، فيتهيأ لهم بهذا الخداع،
مالا يتهيأ بالجيوش وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك الجهة".ا.هـ من
الصواعق(1/350)
فهل
تُرى أهل السنة يسعهم السكوت؟! اللهم لا وألف لا، وإن رغمت أنوف، وأزبدت ألوف.
قال
الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله -في كتابه الرد على المخالف-: (والذين يلوون ألسنتهم
باستنكار نقد الباطل وإن كان في بعضهم صلاح وخير، لكنه الوهن، وضعف العزائم حيناً،
وضعف إدراك مدارك الحق ومناهج الصواب أحياناً، بل في حقيقته من التولي يوم الزحف
عن مواقع الحراسة لدين الله، والذب عنه، وحينئذٍ يكون الساكت عن كلمة الحق كالناطق
بالباطل في الإثم، قال أبو علي الدقاق: الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم
بالباطل شيطان ناطق... وما حجتهم إلا المقولات الباطلة:
لا
تصدعوا الصف من الداخل.
لا
تثيروا الغبار من الخارج.
لا
تحركوا الخلاف بين المسلمين.
نلتقي
فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهكذا….
وأضعف
الإيمان أن يقال لـهؤلاء: هل سكت المبطلون لنسكت، أم أنهم يهاجمون الاعتقاد على
مرأى ومسمع ويُطلَبُ منا السكوت؟ اللهم لا...
وهذا
أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ومنه نقضهم على أهل الأهواء أهواءهم في حملاتهم
الشرسة، وهزاتهم العنيفة ليبقى الاعتقاد على ميراث النبوة نقياً صافياً. ا.هـ.
الشبهة
الثامنة: خطأ الاهتمام بالرد على المخالفين والمبتدعة من أهل الإسلام، وترك الرد
على اليهود والنصارى وأمثالهم.
والجواب
من وجوه:
الأول:
أن خطر أهل البدع أعظم من خطر الكفار الأصليين، وذلك لأن شر المبتدع لا يظهر لكثير
من أهل الإسلام، ولا يؤمَن على كثير منهم الاغترار بالمبتدعة لأنهم يتكلمون باسم
الدين، أما الكافر الأصلي من اليهود والنصارى فشرُّه واضح وضرره بين، وهذا الفرق
بين لكل عاقل فطن قرأ التاريخ، فكم من المسلمين ضل بسبب شبهات اليهود والنصارى؟!
وكم من المسلمين ضل بسبب شبهات المبتدعة؟! لا سواء، بل لا مقارنة أصلاً، لذا فإن
أهل السنة يعاملون المبتدعة في الدنيا أشد من معاملة الكفار الأصليين، قال الْفضيل: (آكُلُ طَعام
اَلْيهودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ
ولا آكُلُ طَعامَ صاحِبِ
بِدْعَة. (الإبانة 197)، وكانت
عنايتهم بحماية السنة والرد على المبتدعة أكثر من عنايتهم بالرد على الكفار
الأصليين، ومن تأمل كلام الإمام أحمد، وسفيان، وحمّاد بن زيد، و حمّاد بن سلمة،
والأوزاعي، وإسحاق، وعلي بن المديني، وغيرهم من أئمة السنة، وجد أن جُلّ كلامهم
وجهادهم إنما هو في الرد على المبتدعة، وفي نقض أصولهم المحدثة، قال ابن تيمية:
ولولا من يقيمه اللّه لدفع ضرر هؤلاء –يعني أهل البدع- لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد
استيلاء العدو من أهل الحرب –يعني الكافرين-، فإن هؤلاء إذا استولوا، لم يفسدوا القلوب وما فيها من
الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء).ا.هـ
من الفتاوى (28/232(.
الثاني:أن
العناية بالرد على المخالفين الداخليين المنتسبين للإسلام، وسيلة للوقوف في وجه
المخالفين الخارجيين من الكفار والمشركين، وذلك أن من أعظم أسباب تسلط الكفار
واستطالتهم على المسلمين، وجود أولئك المخالفين، بل إن المخالفين الداخليين كانوا
في كثير من الأحيان اليد الخفية التي يضرب بها العدوُ الخارجيُ أهلَ الإسلام،
ويستخدمها للسيطرة عليهم، وما أخبار الرافضة كابن العلقمي، وتواطؤهم على إسقاط
دولة الإسلام والسنة بخافية على كل عارف.
قال
ابن القيم في تقرير هذين الجوابين: إذا تأمل المتأمل فساد العالم، وما وقع فيه من
التفرق والاختلاف، وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئاً من جهة التأويلات
المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول، التي تعلق بها المختلفون -يعني
أهل البدع- على اختلاف أصنافهم، في أصول الدين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من
التباين والتحارب وتفرق الكلمة، وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد
ذات البين، حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضاً، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين،
وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم، ما هو أعظم مما يرصدهم به أهل دار
الحرب -يعني الكافرين- من المنابذين لهم، فالآفات التي جنتها ويجنيها كل وقت
أصحابها على الملة والأمة من التأويلات الفاسدة أكثر من أن تحصى، أو يبلغها وصف
واصف، أو يحيط بها ذكر ذاكر، ولكنها في جملة القول أصل كل فساد وفتنة، وأساس كل
ضلال وبدعة، والمولدة لكل اختلاف وفرقة، والناتجة أسباب كل تباين وعداوة وبغضة،
ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأمة بها: أن الأهواء المضلة والآراء المهلكة التي تتولد
من قبلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممر الأيام وتعاقب الأزمنة، وليست الحال في
الضلالات التي حدثت من قبل أصول الأديان الفاسدة -يعني كاليهودية والنصرانية-كذلك
فإن فساد تلك معلوم عند الأمة، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام، فلا
تطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن
يدخلوا أصول مللهم في الإسلام، ولا يدعوا مسلما إليه ولا يدخلوه إليهم من بابه
أبداً، بخلاف فرقة التأويل -يعني أهل البدع- فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن
والسنة وتعظيمهما، وأن لنصوصهما تأويلاً لا يوجد إلا عند خواص أهل العلم والتحقيق،
وأن العامة في عمى عنه، فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه
المنابذين له، ومثلهم ومثل أولئك كمثل قوم في حصن، حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح
حصنهم والدخول عليهم، فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه،
فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم.ا.هـ من الصواعق المرسلة (1/350).
الشبهة
التاسعة: أن الرد على المخالف من الغيبة:
هذه
الشبهة لولا رواجها عند كثير من الناس لأعرضت عنها، وذلك لتهافتها ومنافاتها
للمنقول والمعقول، فأي علاقة بين نصيحة العباد وتحذيرهم من المخالَـفات
والمخالفين، وبين الغيبة، ولو صح ذلك لأغلق باب النهي عن المنكر والتحذير من أصحابه،
ولصار تحذير الصحيح من خطر السقيم المعدي من الغيبة، وكل ذلك كما تقدم ينافي
المنقول والمعقول.
قال
ابن القيم -رحمه الله-: والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها
تحذير المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته
ومعاملته والتعلق به كما قال النبي لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية
وأبي جهم فقال أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه...
فإذا
وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من
جملة الحسنات وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع
منزلته من قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار
الحطب.ا.هـ من الروح (240).
وقال
ابن رجب –رحمه الله-: اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه
مجرد الذمِّ والعيب والنقص، فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم
وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه.
وقد
قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة
وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه.
ولا
فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا
تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئاً منها على
غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد
أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا.
ولهذا
نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح الحديث والفقه
واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من
أئمة السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم
ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمَّاً ولا نقصاً اللهم إلا أن
يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته
وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة. وسبب ذلك
أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله
عليه وسلم ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا...
فرد
المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه العلماء
بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه.
فلا
يكون داخلاً في الغيبة بالكلية فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا
عبرة بكراهته لذلك فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال
المحمودة بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواءٌ كان ذلك
في موافقته أو مخالفته.
وهذا
من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدين كما
أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.ا.هـ من الفرق بين النصيحة والتعيير (1-6).
وهذه
بعض الآثار السلفية التي تبين لكل منصف سلامة منهج الرد على المخالف، و إنه ليس من
الغيبة في شيء:
قال
الإمام أحمد: (لا غيبة لأصحاب البدع) ا.هـ من طبقات الحنابلة (2/274).
وقال
الحسن البصري: (ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة) ا.هـ من شرح أصول
اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (279-280).
وعن
عاصم الأحول، قال: جلست إلى قتادة فذكر
عمرو بن عبيد فوقع فيه، فقلت: لا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض، فقال: (ياأحول، أو
لا تدرى أن الرجل إذا ابتدع فينبغي أن يذكر حتى يحذر) ا.هـ من ميزان الاعتدال للذهبي (5/330).
قال
أبو صالح الفراء
ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئا من أمر الفتن فقال: (ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن بن حي، قال: فقلت
ليوسف: ما تخاف أن تكون هذه غيبة؟،فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم
وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان
أضر عليهم). ا.هـ من تهذيب التهذيب (2/249).
وعن
سفيان بن عيينة
قال: كان شعبة يقول: (تعالوا نغتاب في الله عز وجل).
وعن
الحسن بن الربيع، قال: قال ابن المبارك: (المعلى بن هلال هو إلا أنه إذا جاء
الحديث يكذب، قال: فقال له بعض الصوفية يا أبا عبد الرحمن تغتاب قال: اسكت، إذا لم
نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟).
وعن
عبد الرحمن بن عمرو، قال: (سمعت أبا مسهر، يُسأل عن الرجل يغلط ويهم ويصحف، فقال:
بين أمره، فقلت: لأبي مسهر أترى ذلك من الغيبة ؟ قال: لا).
وعن
عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي فجعل أبي يقول: فلان
ضعيف، فلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ لا تغتب العلماء، فالتفت أبي إليه فقال له:
(ويحك هذا نصيحة، ليس هذا غيبة).
وعن
محمد بن بندار السباك الجرجاني، يقول: قلت لأحمد بن حنبل إنه ليشتد علي أن أقول:
فلان ضعيف، فلان كذاب، فقال أحمد: (إذا سكت أنت وسكت أنا، فمتى يعرف الجاهل الصحيح
من السقيم ؟). ا.هـ هذه الآثار الخمسة الأخيرة من الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي
(91-106).
الشبهة
العاشرة: أنه قد دخل في هذا الباب كثير من الغلاة، وصاروا يطرحونه طرحاً ينفر منه،
فينبغي تركه.
والجواب:
أنه ما من باب من أبواب الدين إلا وللشيطان فيه ركضتان: غلو وجفاء، وهذا
الغلو والجفاء لا يُحل لأحد أن يترك الأصل المشروع، الذي أمر الله به ورسوله صلى
الله عليه وسلم، ومن ذلك الرد على المخالف، فإنه ما من شك من وجود غلاة وجفاة في
هذا الباب، كغيره من أبواب الدين، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، والجهاد في
سبيل الله، وأنواع العبادات، فالغلو والجفاء في هذه الأبواب لا يحل لأحد أن يترك
المشروع منها، فمن تجاوز الحد في ذلك رُدَ عليه تجاوزه، مع إثبات الأصل، والحق
الذي عنده.
قال ابن
رجب: ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته
منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ
شيئاً منها على غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما
أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا... ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم
ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمَّاً ولا نقصاً اللهم إلا أن
يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته
وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة.ا.هـ من
الفرق بين النصيحة والتعيير.
من بحث للاستاذ : حمد بن عبد العزيز
بن حمد ابن عتيق بعنوان (شذور و لطائف في آداب الرد على المخالف) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق