شريط اعلانات

اخوتي في مشارق الارض و مغاربها .. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.. هذه مدونة متواضعة الهدف منها: -خدمة الشريعة .. - نشر العلم النافع .. - تصحيح ما تيسر من المفاهيم الخاطئة .. -الترويح عن النفوس ببعض الملح و النوادر و الحكم .. - و ان تكون صدقة جارية بعد مفارقة هذه الحياة الفانية .. والعضوية فيها مفتوحة لكل من يؤمن بهذه الاهداف ليشارك في خدمة الاسلام و نفع المسلمين . مشاركتكم تقوينا .. وتعليقكم ينفعنا .. و زيارتكم تشجعنا*** اقرأ في هذه المدونة : المظاهر خداعة -الاسلام دين الفطرة و الانسجام مع الكون - من طرائف الطلاب (من هنا و هناك) - علمتني الطبيعة - وحوش المجرة- يمكن البحث في مواضيع المدونة و أرشيفها من خلال زر البحث - و يمكن ترجمتها الى أكثر من 40 لغة من خلال زر الترجمة

الجمعة، يونيو 21، 2013

خصائص السنن الربانية



إن للسنن الكونية والاجتماعية خصائص وسمات أربع وهي : الربانية، والعموم، والثبات، والاطراد، وبسط ذلك فيما يأتي :
أ‌- الربانية
إن أهم خصائص السنن في القرآن الكريم هو خاصية الربانية أي ربانية السنن الكونية والاجتماعية، فهي مرتبطة بالله سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وتقديرا، وليس ذلك لأحد من الناس، ولذلك ورد لفظ السنة في القرآن الكريم بإضافتها إلى الله تعالى في مواضع من القرآن الكريم : (سنة الله)، و (كلمات الله) على اختلاف التعبير كما قال سبحانه: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الفتح: 22-23]، أما إضافتها إلى غير الله من الرسل والأولين؛ فإن إضافتها إليهم باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم.

والقرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنن الكونية والاجتماعية التي تحكم عالم الشهادة، يريد أن يؤكد الصلة الوثيقة بين العلم والإيمان، لأن اكتشاف انتظام هذه السنن والقوانين وعملها ينبغي أن يقود إلى الإيمان بالله عز وجل لا إلى الطغيان والاستغناء عنه سبحانه، فعندما يقرأ الإنسان صفحات الكون أو صفحات التاريخ والاجتماع، ينبغي أن يقرأها باسم الله الخالق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5].

إن التوكيد على مصدر السنن والقوانين الذي هو البارئ سبحانه وتعالى؛ هو الذي يعطيه قيمته الرئيسة، وميزته الكبرى، فهو وحده مناط الثقة في أنه المنهج المبرأ من الجهل والهوى والانحراف في التفسير، هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري والتي نراها مجسمة في جميع المناهج التاريخية والاجتماعية التي صاغها البشر.

ب‌- العموم والشمول
وتتميز هذه السنن أيضا بالعموم والشمول؛ فهي تنطبق على الناس جميعا، دون تمييز ودون استثناء، وبلا محاباة، فالجزاء فيها من جنس العمل، والنتائج بمقدماتها، بغض النظر عن الدين، والجنس واللون، والأصل والإيمان، والكفر، فالكل في ميزانها سواء، كما قال تعالى : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء: 123]، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه وانحرافه ولو كان أطهر أمة، وخير مجتمع كمجتمع النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضي الله عنهم، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمنا لخطئهم في غزوة أحد، فلم يسوغ القرآن عملهم، ولما قالوا حين أصابهم ما أصابهم : أنى هذا ؟ ! وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمين ؟؟ وكيف نهزم ؟ ! أجابهم القرآن بوضوح : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران165 ]، وبين لهم في آية أخرى هذا الذي هو من عند أنفسهم والذي كان سبب الهزيمة بقوله : (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم ) [آل عمران152].

فمن سار على سنن الله في الحرب مثلا، ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعليه يتخرج انهزام المسلمين في غزوة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشجوا رأسه وردوه في تلك الحفرة .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن ذلك العموم والشمول : (وسنته: عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة، ولهذا قال (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر43] وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات22]، أي أشباههم ونظراؤهم، وقال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) [التكوير7 ]، 50 قرن النظير بنظيره، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) [البقرة214]، وقال : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة100] "فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة"

ومثال العموم والشمول في السنن النفسية والطبائع الإنسانية في الأفراد والأمم قوله تعالى : (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء28] وقوله : (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]، (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء: 11]، (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54]، فهذه سنن عامة وشاملة في جميع البشر .

ومثال العموم في سنن التغيير : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، فهي سنة عامة شاملة لكل بني الإنسان لعموم لفظ (قوم) في الآية.
ومثال العموم في سنة التداول : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].

ومثلها سنة التدافع : (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251] فلفظ (الناس) في الآيتين عام في البشر أجمعين، وهذا في القرآن الكريم قليل من كثير، وصبابة من غدير.

ج- الثبات والاستمرار
إن من خصائص السنن الكونية والاجتماعية التي عينها القرآن الكريم خاصية الثبات والدوام، أي أنها لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحول، وهي تجري على الآخرين كما جرت على الأولين، وتعمل في عصر سفن الفضاء عملها في عصر الجمل سفينة الصحراء،وثبات السنن وعدم تغيرها وتحولها أمر لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان كما يقال، يدل عليه تاريخ الأمم والحضارات والواقع المشهود، فكل من جاء بالأسباب وأتى بالموجبات تحققت فيه سنن الله وأحاطت به.

فمثلا من جاء بأسباب الهلاك والدمار وقعت به وفق سنة الله تعالى لا محالة، وأن الهلاك لن يتبدل إلى نعيم وفقا لثبات السنن،ومن وجب عليه العذاب في الدنيا لإتيانه بأسبابه لا يتحول عنه إلى غيره؛ لأن سننه تعالى تجري على وزان العدل والحكمة، ولا يظلم ربك أحدا .

و دليل خاصية الثبات قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 62]، وقوله سبحانه في سورة فاطر : (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر: 43]. 
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين لفظي (التبديل) و (التحويل) مع ضرب الأمثلة ليتضح المراد.

فقال :« (فالتبديل) : أن تبدل بخلافه، والتحويل أن تحول من محل إلى محل؛ مثل استفزازه – أي استفزاز الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من الأرض ليخرجوه؛ فإنهم لا يلبثون خلفه إلا قليلا، ولا تتحول هذه السنة بأن يكون هو المخرج وهم اللابثون،، بل متى أخرجوه خرجوا خلفه، ولو مكث لكان هذا استصحاب حال، بخلاف ظهور الكفار فإنه كان تبديلا لظهور المؤمنين، وظهور الكفار إذ كان لا بد من أحدهما .
وأما أهل المكر السيئ والكفار فهي سنة تبديل، لا بد لهم من العقوبة، لا يبدلون بها غيرها، ولا تتحول عنهم إلى المؤمنين، وهو وعيد لأهل المكر السيئ أن لا يحيق إلا بأهله ولن يتبدلوا به خيرا : يتضمن نفيا وإثباتا، فلهذا نفى عنه التبديل والتحويل ».
والذي يمعن النظر في الآيتين المتقدمتين يجد أن العبارة التي أكد بها الله سبحانه ثبات سننه في خلقه عبارة لا تحتمل الريب واللبس، ومن ذلك استعمال أداة النفي (لن) تلك الأداة التي تفيد النفي في الاستقبال؛ فتنفي وقوع التبديل والتحويل في سنن الله تعالى في المستقبل، وذلك لأن (لن) حرف نفي واستقبال.

ومن الأدلة المتعلقة باللغة كذلك في الآيتين الكريمتين : أن الله تعالى أتى بلفظي (التبديل) و (التحويل) بصيغة التنكير، فجاءت الكلمتان نكرة، وسبقتا بأداة نفي وهي (لن) والقاعدة الأصولية اللغوية : أن النكرة في سياق النفي تعم.
وكذلك فإن المتأمل في قول الله تعالى: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) ، يجد أن الله سبحانه وتعالى كرر النفي مرتين في الآية الكريمة، وخص كلا من (التبديل) و (التحويل) بنفي خاص ومستقل؛ لتأكيد النفي للتبديل والتحويل. وكذلك فإن إفراد كل من التبديل والتحويل بنفي مستقل يؤكد أن لكل لفظ من اللفظين معنى خاص دقيق يختص بكل لفظ على حدة ، وإن كانا يفيدان في عمومهما معنى الثبات.
والقصد من ذلك كله تأكيد ثبات السنن الكونية والاجتماعية في الآفاق والأنفس.
د- الاطراد
والخاصية الرابعة للسنن الكونية والاجتماعية في القرآن الكريم هي : الاطراد أي التكرار والتتابع على نهج واحد وطريقة واحدة لا تختلف ولا تتخلف؛ كلما وجدت الأسباب، وتوفرت الشروط، وانتفعت الموانع، ولولا الاطراد لم يصح الاعتبار، وقد قال تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ َـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 137-138]، وقال سبحانه : (َقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111]، وقال : (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2].

والاطراد دليل على أن مقتضى حكمة الله تعالى أن يقضي في الأمور المتماثلة بقضاء متماثل لا بقضاء مخالف، فإذا كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال : (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2]، فعم كل سنة له، وهو يعم كل سنته في خلقه وأمره؛ في الطبيعيات والدينيات.

ويزيد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر شرحا وبيانا فيقول :(و (السنن) و (أسنان المشط) ونحو ذلك بلفظ (السنة) يدل على التماثل، فإنه سبحانه إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم؛ فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل، وهذا القول أشبه بأصول الجمهور القائلين بالحكمة في الخلق والأمر، وأنه سبحانه يسوي بين المتماثلين، ويفرق بين المختلفين، كما دل القرآن على هذا في مواضع كقوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)[القلم: 35].

ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها، والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن، وهي كثيرة".
فالحكمة –إذن- من كون السنن ثابتة ومطردة هو أن تنضبط الموازين، وتستقر معالم الحكم على الأشياء والأحداث والوقائع والأفراد والأمم والتاريخ والحضارات، وإلا كان الأمر فوضى وعبتا ولعبا، وهو ليس كذلك قطعا وجزما .

وهو الأصل الذي نبه عليه شيخ المقاصد الإمام الشاطبي لما بين أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال من هذا الوجود على أنها دائمة وغير مختلفة إلى قيام الساعة، كالإخبار عن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال و أن سنة الله لا تبديل لها، وأن لا تبديل لخلق الله.

ثم يذكرنا الشاطبي أن هنالك علاقة لزوم بين معرفة الدين واطراد السنن، وأنه لو لم تكن السنن الكونية والاجتماعية مطردة، لم يعرف الدين من أصله، فضلا عن تعرف فروعه، لأن الدين لا يعرف إلا بالاعتراف بالنبوة، ولا سبيل للاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي.

فلو كان الباري عز وجل خلق الناس وخلق الكون من حولهم في تغيير مستمر لما أمكن أن يكون لهم تشريع ثابت لا يتغير، فثبات التشريع في أصوله وعدم تغيره واضطرابه بتغير الزمان والمكان دليل على أن الخلق الذين شرع لهم لا تتغير فطرهم وطبائعهم التي بني عليها التشريع.

إن القرآن الكريم بتأكيده المستمر على اطراد السنن الكونية والاجتماعية، وتكررها، وتسلسلها، وتتابعها، يكون قد جاء برؤية علمية للتاريخ والاجتماع، أي أن هذه السنن مطردة، ليست علاقة عشوائية،وليست رابطة بين العلل والمعلولات قائمة على الصدفة والاتفاق، وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي وعلمي، لأن أهم ما يميز القانون العلمي الخاضع للاستقراء والملاحظة والتجربة عن بقية المعدلات والفروض هو الاطراد والتتبع وعدم التخلف.

هذا البلاغ القرآني الجليل في مسألة السنن أعرض المسلمون عن هديه، وجنح كثير منهم في العصور الأخيرة إلى إنكار ثبات السنن واطرادها؛ بل إلى تحريم النظر في علل الأشياء وأسبابها، والتوهم بأن هذا الاعتقاد يتعارض مع الإيمان بقدرة الله تعالى وقضائه،ويناقض التوكل عليه سبحانه،ففصلوا بين السبب والمسبب، وبين المقدمة والنتيجة، فسادت بينهم النظرة العفوية الاستسلامية، والرؤية الفوضوية المفككة، التي تنظر إلى أحداث التاريخ والاجتماع والعمران كما لو كانت كومة متراكمة معزولة، منفصلا بعضها عن بعض،لا يربطها رابط ولا يجمعها جامع من علل ومعلولات؛ وأسباب ومسببات .

وساد ضرب من الفكر الكلامي، انتشر في أطراف العالم الإسلامي؛ مند القرن الخامس الهجري،متأثرا بالجدل الفلسفي الأجنبي؛ سعى إلى تعطيل قانون السببية تعطيلا كاملا، ونزع صفة الاطراد عن السنن؛ بحجة أن الصفات لا ترتبط بالموجودات ارتباطا لازما، بل ترتبط بها ارتباط عادة، فيعتقد هؤلاء مثلا أنه ليس من طبيعة النار الإحراق، ولكن الله تعالى يجعل فيها هذه الصفة لحظة ملامستها! وكذلك السكين ليس من طبيعته القطع، وإنما يخلق الله عز وجل هذه الصفة فيها حين إمرارها على الجلد،وبناء على ذلك،أنكروا كل (باء سببية) في القرآن الكريم، وبدعوا من خالفهم، ومن قال :النار تحرق بقوة أودعها الله فيها؛ فهو مبتدع ضال في زعمهم، ومن متونهم المنظومة في العقيدة:

والفعل في التأثير ليس إلا *** للواحد القهار جل وعلا
ومن يقل بالطبع أو بالعلة *** فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالقوة المودعة *** فذاك بدعي فلا تلتفت

ومرد هذا نفي فكرة الطبع التي كان يقول بها بعض الفلاسفة القدامى،إذ يعتقد هؤلاء المتكلمون أن التسليم بوجود الصفات في طبع الأشياء يعطل الإرادة الإلهية؛ ويجعل هذه الأشياء فاعلة بذاتها وليس بقدرة الله تعالى، وقد أخطأوا حين ظنوا بأن الاطراد في السنن ينفي المشيئة الإلهية أو يعطلها، لأن السنن التي تحكم الوجود، ما هي إلا قدر الله عز وجل، أنشاه حتى يستطيع الإنسان تسخيره واستثماره والاستفادة منه في سائر شؤون حياته، وقد كان من نتائج هذا الفكر الكلامي الجانح تعطيل الأخذ بأسباب النهوض والبناء والرقي، نشأ عنه تخلف المسلمين الحضاري، وسقوطهم الاجتماعي، والانصراف عن العطاء والعمل، إلى الكلام والمراء والجدل.

كما أن التصوف الفلسفي البدعي الذي فشا في المسلمين فشوا كبيرا في العصور المتأخرة كان من أعظم العوامل التي أدت إلى ضعف الوعي باطراد السنن؛ مما أفضى إلى الاستهانة بالعلوم التجريبية، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وإهمال الدنيا وعمارة الأرض، والانعزال عن الخلق في الربط والزوايا والتكايا، بحجة التربية والتزكية من أجل الآخرة، وترك الأخذ بالأسباب، والسلبية والتواكل، والإعراض عن التفكير العلمي الذي أصله الإسلام إعراضا يكاد يكون تاما، وانتشار الخرافات والأساطير والبدع بينهم، وميل الناس ميلا عظيما إلى الاشتغال بالخوارق والكرامات، والأضرحة والأولياء والمزارات.

الجمعة، يونيو 07، 2013

وقفات مع حديث تداعي الأمم


ابراهيم بن صالح العجلان 
تداعي الامم على خير الامم
 
معاشر المسلمين :
نصحَ أمتَه ، تركها على البيضاءِ ، أشفقَ على هوانِها ، رسمَ لها معالمَ عِزِّها وشرَفِها ، وأوضحَ لها سببَ شقائِها وذُّلِّها . 
فمع نبإٍ من أنباءِ الغيبِ التي حدثنا بها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم،
نقف مع كلماتٍ معدودات ، دقيقةِ التوصيفِ ، واضحةِ التعبيرِ ، نغوصُ في أسرارها ، ونَسْتَكْشِفُ معالمِها ، فيها استشرافٌ للمستقبلِ ، ووضعُ اليدِ على مكمن الداء .
روى الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ بسندٍ صحيحٍ عن ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».
إخوة الإيمان : ولنا مع هذا الحديث وقفات وتأملات : 
الوقفة الأولى : هذا قَدَرٌ كتبه الله على أمةِ الإسلام أن تُبغضَ وتُحسد ، وتحارب وتحقد ، ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) ، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْقَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا)
فهذه الأمةإذاً مبغوضةٌ ومحسودةٌ من أعدائها ، منذ أن بزغَ فجرُها ونورُها ، وتاريخُها مليءٌ بشواهدَ منهذه الضغائنِ المتراكمة.
ولا يزال هذا الحقدُ تغلي مراجلُه ، ولا أدلَ على هذا من حملاتِ التشويهِ والاستعداءِالمتجدِّدة ضد هذا الدينِ ونبيِّه ومقدساتِه وشعائرِه.
قنواتٌ وإعلام ، تغذي كراهية المسلمين والإسلام ، وأعلامٌ وأقزام ، جعلت مشروعَها السعيَ في تشويه رسالةِ الإسلام ، وانتقاص شرائعة ، ومحاربة وتحجيم شعائره .
فعادَ الإسلامُ غريباً كما بدأَ حتى في ديارِ المسلمينَ أنفسِهم ، وأضحىتطبيقُ الشريعةِ جريمةً لا يرضاها الغرب ، ويَعُدُّها سبباً للتدخلِ العسكريَّ البربري .

الوقفة الثانية : عند قوله صلى الله عليه وسلم : )يوشك أن تداعى عليكم الأمم ) هي أُممٌ ، وليست أمةٌ واحدة ، أمم يدعوا بعضُها بعضَا ، وينادي بعضُها بعضَا، أممٌ مُتعددةٌ ، وشعوبٌ مختلفةٌ ، تَفرَّقَ شَمْلُهًم ، إلا على محاربةِ الإسلامِ وأهله.
لقد أخبرنا ربنا عزوجل عن تفرقِ المشركينَ وتناحرِهم وتباغضِهم وتطاحُنِهم (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )
وأخبرنا سبحانه عن العداوةِ المستحكمَةِ ، والصراعِ القائمِ بين ملتي اليهود والنصارى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ) 
بيد أن هذا الخلافَ يُنسى ويُتناسى إذا كان الخصمُ دينُ الإسلامِ ، وهذا حقيقة مؤكَّدةٌ في كتاب ربنا عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ) ، (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ).
فواجب على أهل الإسلام بغضُ مِللِ الكفرِ ، لأن الله عز وجل أبغضَهم وعادَاهم (واللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ، (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) 

الوقفة الثالثة : عند قوله صلى الله عليه وسلم (كما تَدَاعى الأكلةُ إلى قصعتِها)
عبارةٌ بليغة ، وتصويرٌ دقيقٌ يَحكي واقعَ هذا التداعي ، فالأَكَلَةُ جمع آكِل ، ووصِفَ الجَمْعٌ بالأكلة كنايةً عن شدةِ نهمهم وشراهتهم ، والقَصْعَةُ هي الوِعَاءُ الذي يُثْرَدُ فيه الطعامُ ويُجْمَعُ .
فلك أن تتخيلَ هجومَ هذه الأكلةُ على هذا الوعاء ، كلٌّ يَنْهَشٌ ويُسابق لحصَّتِه وغنيمَتِه .
إنها صورةٌ توحي بنفسيةٍ عفنةِ انطَوَتْ على شراهةٍ واندفاعٍ شديدٍ نحو القصعة ، إنها صورةٌ مصغَّرةٌ لتفاهةِ الحضاراتِ الماديةِ ، يوم تتناسى إنسانيةَ الإنسان ، وتتعاملُ بلغةِ المصالحِ الخاصة .
صورةٌ الجَشَعِ البغيضِ الذي تعيشُه دولُ الكفرِ الباغية ، صورةٌ لأطماعِهم غيرِ المحدودةِ في ثرواتِ المسلمين .
والتاريخُ يُسجِّلُ ويَنْطِقُ بحقيقةِ هذه الصورة ، فماذا فَعَلَتْ دولُ أوروبا النصرانيةُ المتحضرةُ ببلاد المسلمين إبَّان الاستعمار الهَمَجيِّ لها ؟! 
قَتَلَتِ الآلاف ، وشرَّدَتِ الملايين ، خربت الديار ، وأفسدت الممتلكات ، وقسموا جسدَ الأمةِ إلى دويلاتٍ نَهبتْ الدولُ النصرانيةُ الصليبيةُ من خيراتِها رَدْحَاً من الزمن.
الوقفة الرابعة : في التعبير النبويِّ بالقصعة إشارة إلى البُعْدِ الاقتصاديالتي تخوضها الأممُ الكافرةُ على بلادِ المسلمين ، فالهدفُ من هذا التداعي إذاً ليس استئصالُ المسلمين ، وإنما هدفُه الطمعُ فيما عند المسلمينَ من خيرات ، والسيطرة عليها ، سواء أكانت هذه الخيراتِ من النفط ، أو من المعادن ، أو من المياه الإقليمية ، أو من ممراتِ التجارةِ الحساسة .
هذه الأممُ المتداعيةُ المتحالفةُ ربَّما برَّرَتْ عداءَها وتدَخُّلَها تحتَ شعاراتٍ شتى ، فربما تَدَاعَتْ تحتَ ذريعةِ محاربةِ الإرهاب ، أو البحثِ عن أسلحةِ الدمار ، أو نشرِ الحريةِ وفرضِ الديمقراطية ، أو غيرِها من الذرائع ، التي هي لذرِّ الرمادِ ، وإخفاءِ المطامعِ ، وتحقيقِ المصالح .
هذا التداعي وتلك الممالأة هدفه الطمع أولاً، وهدفُه إضعافُ الأمةِ الإسلاميةِ ثانياً.
وإضْعَافُها قد يكونُ بالتَّدَاعي عليها أو جزءٍ منها عسكرياً ، أو اقتصادياً .
وقد يكون التداعي فكرياً ، وذلك بإنشاءِ معاهدَ ومؤسساتٍ تَدْرُسُ المجتمعاتِ الإسلامية ، وتكتبُ التوصيات ، وتَرسمُ الخطط ، وتعملُ ليلَ نهار ، لتشويه صورة الإسلام ، والتشكيك فيه ، ونبذ الفرقة بين المسلمين .(مؤسسة راند أقرب شاهد وأوضح مثال ).
الوقفة الخامسة : يَسألُ سائلُ الصحابةِ بعد هذه الحال البئيسة المشفقة : أومن قلَّة نحن يومئذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا أنتم يومئذ كثير ). 
فالكثرةُ والقِلَّةُ ليست معياراً من معاييرِ النصرِ أو الهزيمة (كم من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) ، ونُصِرَ المؤمنونَ ببدرٍ وهم قِلَّة ، وهزموا في حنين لما أعجبتْهُم كثرتُهُمْ ، فالكثرةُ بلا تَناصُرٍ ولا تأثيرٍ أصفارٌ لا قيمةَ لها .
وها نحنُ نرى مصداقَ خبرِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، فمع أنَّ أمة الإسلام من أكثرِ أممِ الأرضِ إلا أن بلايا العصرِ تُصَبُّ على أهلِ الإسلامِ صبَّاً ، والحروبَ تُسَعَّرُ ضدهم ، فمن أفغانستان ، إلى العراق ، فبورما ، إلى سوريا ، ثم إلى مالي ، ولا ندري على أيِّ قصعةٍ من جسدِ الأمةِ ستجتمعُ الأَكَلةُ غداً .
والكثرةُ الكاثرةُ من المسلمين أمام هذه الفواجعِ تحوقلُ وتتوجعُ ، وخيرُهم من كان للاجئينَ والبائسينَ هِلالاً أَحْمَرَ .

الوقفة السادسة : في وصفِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حالَ المسلمينَ حين التداعي بغُثَاءِ السيل ، تَشْبيهٌ بَديعٌ عَجيب .
فَغُثَاءُ السَّيْلِ هو ما طَفَحَ على الماءِ مما كان على وجهِ الأرضِ ، ويُحرِّكُها السَّيْلُ كيفما سار ، وهكذا حالُ أمةِ الإسلامِ تُحرِّكها سياساتُ الغربِ ، وتَفْرِضُ عليها رؤيتَها في الحياة .
غُثَاءُ السَّيْلِ يَحمِلُ أشياءَ لا قيمةَ لها ، وكذلك المسلمونَ في عالمِ اليومِ عددُهم يفوقُ المليار ، ويشكلونَ خمس العالم ، ولكن بلا قوةٍ تذكر ، أو تأثير في صناعة القرار في عالم السياسة .
غُثَاءُ السَّيْلِ ليستْ نهايتُه قِمَمُ الجبالِ ، وإنما ينتهي في حفرةٍ سحيقةٍ يُدفن فيها ويَتجاوزُه السيل ، وكذلك أعداءُ الملة كم تمنوا لو دفنوا هذا الدين ، وجعلوه من ذكرياتِ الماضي . 
الوقفة السابعة: عند قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ) .
وهذه عقوبةٌ من الله عاجلة لهذه الأمة ، أنها في زمن التفرق والغثائية لا يُهابون ولا يُعبأُ بهم ، ففقدوا بذلك سلاحاً عظيماً طالما نُصروا به، وهو سلاح الهيبة والرعب.
لقد كانت يهود في عصر النبوة يخافون من المسلمين أشد من خوفهم من الله ، فقال الله تعالى ذاما لهم بأنهم لا يفقهون ولا يعقلون (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ) ، فكان هذا السلاح سببا من أسباب هزيمة اليهود على أيدي المسلمين في غزوات عدة كما قال ربنا جل وعلا (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)
بارك الله لي ولكم في لقرآن العظيم ......
الخطبة الثانية :

أما بعد فيا اخوة الإيمان : 
ووقفة ثامنة : ما سبب هذا الضعف ، ما مصدر هذا الهوان ؟
ويأتي الجوابُ في عباراتٍ واضحاتٍ ، وكلماتٍ مختصرات ، لا تعقيدَ في بيانِ العلاجِ ، ولا فلسفةَ في تشخيصِ الداء .
السببُ هو الوَهَنُ ، حُبُّ الدنيا ، وكَرَاهيةُ الموت ، وليس المقصودُ بحبِّ الدنيا السعيُّ في الأرض ، والعملُ فيها والتكسب ، كلا ، فهذا مما حضه الشرع ، وحب المال والولد غريزة فطرية لا ينفك عنها البشر ، وإنما المقصود بالذم هو حبُّ الدنيا الطاغي الذي يلهي العبد عن دينه وعبادته والعمل لآخرته .
أن تتحول هذه الدنيا في قلب صاحبها إلى غاية لا يهتم بعدها إلا بدنياه ، فيغضب ويكره لأجلها ، ويعادي ويوالي بسببها ، وتغور في قلبه الغيرة على الدين ، وتقبض يديه عن نصرة المستضعفين ، وتموت بين جنبيه روح المقاومة على المعتدين . 
هذا الرضا بالدنيا هو غفلة وبُعْدٌ عن الله تعالى ، وهو الذي ذمه الله في آيات عدة : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ، ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا والذين هم عن آياتنا غافلون )

لننظر يا أهل الإيمان إلى المعاصي التي طَفَحَتْ في الأمة نجدُ أن سببَها حبُّ الدنيا والتعلقُ بها ، فهل أُكل الحرامُ والربا ، ومنعت الزكاة إلا بسبب حب الدنيا ؟! 
وهل ظهر الظلمُ والبغيُ على العبادِ إلا بسببِ حبَّ الدنيا ؟! 
وهل بِيْعَ الدينُ ، وضُيِّعَتِ الأمانةُ إلا بسبب اللهث وراء الدنيا ؟! 
وهل قطعت الأرحام ، وحصل التباغض والتهاجر والتدابر إلا بسب حب الدنيا والغفلة عن الموت والدار الآخرة .
وإذا التهى العبد بدنياه وغفل عن بذر الحصاد ليوم التناد فإنه يكره الموت لا لذات الموت ، فالكل يكره الموت كما قالت أمنا عائشة ، وإنما كراهية ما بعد الموت ،
ويدخل في كراهية الموت أيضاً كراهية التضحية وبذل الأرواح في سبيل الله.
وأخيراً يا أهل الإيمان ... سيوجد هذا الغثاء في الأمة وسيعلو ظلامُه ، وتشتدُّ عَتَمَتُه ،ولكن سيضيئُ النورُ من بين هذا الغثاء ، في رجال نُزِعَتْ من قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت ، سيكون في هذه الأمة وإن حلَّت الغثائية أمَّة بالحق ظاهرين لا يضرهم خذلانُ المخذِّلين ، ولا نَبَزَاتُ المنافقين ، كما قال سيد المرسلين : (لَا تزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) رواه البخاري
سيبقى الحق ظاهرا وإن حلت الغثائية ، وستبقى التضحية والفدائية ، وإن عمت المذلة في الأمة الإسلامية .
فكونوا يا أهل الخير يا أحباب محمد صلى الله عليه وسلم ، يا أتباع الصحابة كونوا من أهل الحق ، بنصرة الدين ، والدفاع عن مقدسات المسلمين ، ونصرة قضاياهم كل بحسبه ، بماله وجاهه ، وقلمه وبيانه ، ودعوته وإصلاحه .
كونوا كذلك يبقى أثركم ، وترفع درجاتكم ، وتكفر سيئاتكم ، وتدركوا مرضاة ربكم .
اللهم صل على محمد ....
 
نقلا عن موقع : ملتقى الخطباء

السبت، يونيو 01، 2013

موقف أهل السنة من العالم إذا أخطأ

موقف أهل السنة من العالم إذا أخطأ أنه
يعذر فلا يبدع ولا يهجر
 الشيخ عبد المحسن العباد
ليست العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يسلم عالمٌ من خطأ،
ومن أخطأ لا يُتابع على خطئه، ولا يُتخذ ذلك الخطأ ذريعة إلى عيبه والتحذير منه،
بل يُغتفر خطؤه القليل في صوابه الكثير، ومن كان من هؤلاء العلماء قد مضى فيستفاد من علمه مع الحذر من متابعته على الخطأ،
ويدعى له ويترحم عليه، ومن كان حياً سواء كان عالماً أو طالب علم يُنبه على
خطئه برفق ولين ومحبة لسلامته من الخطأ ورجوعه إلى الصواب.
.
.
وما أحسن قول الإمام مالك رحمه الله:
" كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ".

وهذه نقول عن جماعة من أهل العلم في تقرير وتوضيح اغتفار خطأ العالم في صوابه الكثير:
قال سعيد بن المسيب (93هـ):
" ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله
أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أنه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله.
وقال غيره: لا يسلم العالم من الخطأ، فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو عالم،
ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل ".
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر [2/48].

وقال عبد الله بن المبارك (181هـ):
" إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن ".
سير أعلام النبلاء للذهبي [8/352 ط. الأولى].
وقال الإمام أحمد (241هـ):
" لا يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق (يعني ابن راهويه)،
وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ".
سير أعلام النبلاء [11/371].

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه (728هـ):
" ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات،
منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومن من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه،
فيكون محموداً فيما رده من الباطل وقاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث
جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها،
ورد باطلاً بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون
كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثيرٌ
من سلف الأمة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة،
بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين،
وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات،
واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهولاء من أهل التفرق والاختلافات ".
مجموع الفتاوى [3/348-349].

وقال [19/191-192]:
" وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة،
إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها،
وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله:
(( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ))،
وفي الصحيح أن الله قال: { قد فعلت } ".
وقال الإمام الذهبي (748هـ):
" ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه،
وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه، وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه،
وننسى محاسنه، نعم! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك ".
سير أعلام النبلاء [5/271].
وقال أيضاً:
" ولو أنا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه،
لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق،
وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ". السير [14/39-40].
وقال أيضاً:
" ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق – أهدرناه وبدعناه،
لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه " . السير [14/376].
وقال أيضاً:
" ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة،
ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن " .
السير [20/46].

وقال ابن القيم (751هـ):
" معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله
ورسله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي
عليهم فيها ما جاء به الرسول، فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها،
لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عند القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثم ولا نعصم "
إلى أن قال: " ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي
له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون
منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها،
ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين " . إعلام الموقعين [3/295].
وقال ابن رجب الحنبلي [795هـ]:
" ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه " .
القواعد (ص:3).

فتنة التجريح والهجر من بعض أهل السنة
في هذا العصر، وطريق السلامة منها

حصل في هذا الزمان انشغال بعض أهل السنة ببعض تجريحاً وتحذيراً،
وترتب على ذلك التفرق والاختلاف والتهاجر، وكان اللائق بل المتعين التواد والتراحم بينهم، ووقوفهم صفاً واحداً في وجه
أهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنة والجماعة، ويرجع ذلك إلى سببين:

أحدهما: أن من أهل السنة في هذا العصر من يكون ديدنه وشغله الشاغل تتبع الأخطاء
والبحث عنها، سواء كانت في المؤلفات أو الأشرطة، ثم التحذير ممن حصل منه شيءٌ
من هذه الأخطاء، ومن هذه الأخطاء التي يُجرح بها الشخص ويحذر منه بسببها تعاونه مثلاً مع إحدى الجمعيات بإلقاء المحاضرات أو
المشاركة في الندوات، وهذه الجمعية قد كان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين
رحمهما الله يُلقيان عليها المحاضرات عن طريق الهاتف، ويعاب عليها دخولها في أمر قد أفتاها به هذان العالمان الجليلان،
واتهام المرء رأيه أولى من اتهامه رأي غيره، ولا سيما إذا كان رأياً أفتى به كبار العلماء،
وكان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما جرى في صلح الحديبية يقول:
يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين .

ومن المجروحين من يكون نفعه عظيماً، سواء عن طريق الدروس أو التأليف أو الخطب،
ويُحذر منه لكونه لا يعرف عنه الكلام في فلان أو الجماعة الفلانية مثلاً،
بل لقد وصل التجريح والتحذير إلى البقية الباقية في بعض الدول العربية، ممن نفعهم عميم
وجهودهم عظيمة في إظهار السنة ونشرها والدعوة إليها، ولا شك أن التحذير
من مثل هؤلاء فيه قطع الطريق بين طلبة العلم ومن يمكنهم الاستفادة منهم علماً وخلقاً.

والثاني: أن من أهل السنة من إذا رأى أخطاء لأحد من أهل السنة كتب في الرد عليه،
ثم إن المردود عليه يقابل الرد برد، ثم يشتغل كل منهما بقراءة ما للآخر من
كتابات قديمة أو حديثة والسماع لما كان له من أشرطة كذلك؛ لالتقاط الأخطاء وتصيد المثالب، وقد يكون بعضها من قبيل سبق اللسان،
يتولى ذلك بنفسه، أو يقوم له غيره به، ثم يسعى كل منهما إلى الاستكثار من
المؤيدين له المدينين للآخر، ثم يجتهد المؤيدون لكل واحد منهما بالإشادة بقول
من يؤيده وثم غيره، وإلزام من يلقاه بأن يكون له موقف ممن لا يؤيده،
فإن لم يفعل بدعه تبعاً لتبديع الطرف الآخر، وأتبع ذلك بهجره، وعمل هؤلاء المؤيدين لأحد الطرفين الذامين للطرف الآخر من أعظم الأسباب
في إظهار الفتنة ونشرها على نطاق واسع، ويزداد الأمر سوءاً إذا قام كل من الطرفين
والمؤيدين لهما بنشر ما يُذم به الآخر في شبكة المعلومات (الانترنت)،
ثم ينشغل الشباب من أهل السنة في مختلف البلاد بل في القارات بمتابعة الإطلاع
على ما ينشر بالمواقع التي تنشر لهؤلاء وهؤلاء من القيل والقال الذي لا يأتي بخير،
وإنما يأتي بالضرر والتفرق، مما جعل هؤلاء وهؤلاء المؤيدين لكل من الطرفين يشبهون المترددين
على لوحات الإعلانات للوقوف على ما يجد نشره فيها، ويشبهون أيضاً المفتونين
بالأندية الرياضية الذين يشجع كل منهم فريقاً، فيحصل بينهم الخصام
والوحشة والتنازع نتيجة لذلك.

وطريق السلامة من هذه الفتن تكون بما يأتي:
أولاً:فيما يتعلَّق بالتجريح والتحذير ينبغي مراعاة ما يلي:

1. أن يتقي الله من أشغل نفسه بتجريح العلماء وطلبة العلم والتحذير منهم،
فينشغل بالبحث عن عيوبه للتخلص منها بدلاً من الاشتغال بعيوب الآخرين،
ويحافظ على الإبقاء على حسناته فلا يضيق بها ذرعاً، فيوزعها على من ابتلي بتجريحهم
والنيل منهم، وهو أحوج من غيره على تلك الحسنات في يوم لا ينفع
فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

2. أن يشغل نفسه بدلاً من التجريح والتحذير بتحصيل العلم النافع، والجد والاجتهاد فيه
ليستفيد ويفيد، وينتفع وينفع، فمن الخير للإنسان أن يشتغل بالعلم تعلماً
وتعليماً ودعوة وتأليفاً، إذا تمكن من ذلك ليكون من أهل البناء، وألا يشغل نفسه
بتجريح العلماء وطلبة العلم من أهل السنة، وقطع الطريق الموصلة إلى الاستفادة منهم،
فيكون من أهل الهدم، ومثل هذا المشتغل بالتجريح لا يخلف بعده إذا مات
علماً يُنتفع به، ولا يفقد الناس بموته عالماً ينفعهم، بل بموته يسلمون من شره.

3. أن ينصرف الطلبة من أهل السنة في كل مكان إلى الاشتغال بالعلم، بقراءة
الكتب المفيدة وسماع الأشرطة لعلماء أهل السنة مثل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، بدلاً من انشغالهم بالاتصال بفلان أو فلان، سائلين:
( ما رأيك في فلان أو فلان؟ )،
(وماذا تقول في قول فلان في فلان، وقول فلان في فلان ).

4. عند سؤال طلبة العلم عن حال أشخاص من المشتغلين بالعلم، ينبغي رجوعهم
إلى رئاسة الإفتاء بالرياض للسؤال عنهم، وهل يرجع إليهم في الفتوى وأخذ
العلم عنهم أو لا؟ ومن كان عنده علم بأحوال أشخاص معينين يمكنه أن يكتب إلى رئاسة الإفتاء ببيان ما يعلمه عنهم للنظر في ذلك،
وليكون صدور التجريح والتحذير إذا صدر يكون من جهة يعتمد عليها في الفتوى وفي بيان من يؤخذ عنه العلم ويرجع إليه في الفتوى،
ولا شك أن الجهة التي يرجع إليها للإفتاء في المسائل هي التي ينبغي الرجوع
إليها في معرفة من يُستفتى ويؤخذ عنه العلم، وألا يجعل أحد نفسه مرجعاً في
مثل هذه المهمات؛ فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

ثانيا:فيما يتعلق بالرد على من أخطأ، ينبغي مراعاة ما يلي:
1. أن يكون الرد برفق ولين ورغبة شديدة في سلامة المخطئ من الخطأ، حيث
يكون الخطأ واضحاً جلياً، وينبغي الرجوع إلى ردود الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله –
للاستفادة منها في الطريقة التي ينبغي أن يكون الرد عليها.

2. إذا كان الخطأ الذي رد عليه فيه غير واضح، بل هو من الأمور التي يحتمل أن
يكون الراد فيها مصيباً أو مخطئاً، فينبغي الرجوع إلى رئاسة الإفتاء للفصل في ذلك،
وأما إذا كان الخطأ واضحاً،
فعلى المردود عليه أن يرجع عنه، فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.

3. إذا حصل الرد في إنسان على آخر يكون قد أدى ما عليه، فلا يشغل نفسه
بمتابعة المردود عليه، بل يشتغل بالعلم الذي يعود عليه وعلى غيره بالنفع العظيم،
وهذه هي طريقة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

4. لا يجوز أن يمتحن أي طالب علم غيره بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه أو الراد،
فإن وافق سلم، وإن لم يوافق بدع وهجر، وليس لأحد أن ينسب إلى أهل السنة مثل
هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أيضاً أن يصف من لا يسلك هذا المسلك
الفوضوي بأنه مميع لمنهج السلف، والهجر المفيد بين أهل السنة ما كان نافعاً للمهجور، كهجر الوالد ولده، والشيخ تلميذه، وكذا صدور الهجر ممن يكون له منزلة رفيعة ومكانة عالية،
فإن هجر مثل هؤلاء يكون مفيداً للمهجور، وأما إذا صدر الهجر من بعض الطلبة لغيرهم،
لا سيما إذا كان في أمور لا يسوغ الهجر بسببها، فذلك لا يفيد المهجور شيئاً،
بل يترتب عليه وجود الوحشة والتدابر والتقاطع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [3/413-414]: في كلام له عن يزيد بن معاوية: " والصواب هو ما عليه الأئمة،
من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم،
ولا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له "،
وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية،
وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه...
فالواجب الاقتصاد في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به،
فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة " .

وقال [3/415]:
" وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ".
وقال [20/164]:
" وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا ينصب لهم كلاماً
يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع
الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على
ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ".

وقال [28/15-16]:
"
فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده
ونحو ذلك نظر فيه: فإن كان قد فعل ذنباً شرعياً عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة،
وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعياً لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره.
وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء،
بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى، كما قال الله تعالى:
(( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )) "،
قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "
من كتابه جامع العلوم والحكم [1/288]:
" وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح
عن أبي محمد بن أبي زيد – إمام المالكية في زمانه – أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع
من أربعة أحاديث، قول النبي صلى الله عليه وسلم:
{ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت }، وقوله صلى الله عليه وسلم:
{ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه }،
وقوله للذي اختصر له في الوصية: { لا تغضب }،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
{ المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه } ".
أقول: ما أحوج طلبة العلم إلى التأدب بهذه الآداب التي تعود عليهم وعلى غيرهم
بالخير والفائدة، مع البعد من الجفاء والفظاظة التي لا تثمر إلا الوحشة
والفرقة وتنافر القلوب وتمزيق الشمل.

5. على كل طالب علم ناصح لنفسه أن يعزف عن متابعة ما ينشر في شبكة المعلومات
الانترنت، عما يقوله هؤلاء في هؤلاء، وهؤلاء في هؤلاء، والإقبال عند استعمال
شبكة الانترنت على النظر في مثل موقع الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – ومطالعة بحوثه وفتاواه التي بلغت حتى الآن واحداً وعشرين مجلداً،
وفتاوى اللجنة الدائمة التي بلغت
حتى الآن عشرين مجلداً، وكذا موقع الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – ومطالعة كتبه وفتاواه الكثيرة الواسعة.

وفي الختام أوصي طلبة العلم أن يشكروا الله عز وجل على توفيقه لهم؛ إذ جعلهم
من طلابه، وأن يعنوا بالإخلاص في طلبه، ويبذلوا النفس والنفيس لتحصيله، وأن يحفظوا الأوقات في الاشتغال به؛ فإن العلم لا ينال بالأماني
والإخلاد إلى الكسل والخمول، وقد قال يحيى بن أبي كثير اليمامي:
" لا يستطاع العلم براحة الجسم "،
رواه مسلم في صحيحه بإسناده إليه في أثناء إيراده أحاديث أوقات الصلاة،
وقد جاء في كتاب الله آيات، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل
على شرف العلم وفضل أهله، كقوله تعالى:
((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ ))، وقوله:
((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، وقوله:
((يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ))،
وقوله: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ))،
وأما الأحاديث في ذلك فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين "
أخرجه البخاري (71) ومسلم (1037)،
وقد دل الحديث على أن من علامة إرادة الله تعالى الخير بالعبد أن يفقهه في الدين؛
لأنه بفقهه في الدين يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره على بصيرة، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" خيركم من تعلم القرآن وعلمه " رواه البخاري (5027)، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين "
رواه مسلم (817)، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها " وهو حديث متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابياً، ذكرت رواياتهم في كتابي "
دراسة حديث { نضر الله امرءا سمع مقالتي }
رواية ودراية "،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
" من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله عز وجل به طريقاً من طرق الجنة،
وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات
ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل
القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر "
وهو حديث حسن لغيره، أخرجه أبو داود (3628) وغيره، وانظر تخريجه صحيح الترغيب والترهيب (70) والتعليق على مسند الإمام أحمد (21715)،
وقد شرح الحافظ ابن رجب هذا الحديث في جزء مفرد، والجملة الأولى وردت في حديث في صحيح مسلم (2699)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة:
إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له " رواه مسلم (1631)،
وقوله صلى الله عليه وسلم:
" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً "
أخرجه مسلم (2674).


وأيضا أوصي الجميع بحفظ الوقت وعمارته فيما يعود على الإنسان بالخير، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ " رواه البخاري في صحيحه (6412)، وهو أول حديث عنده في كتاب الرقاق، وقد أورد في هذا الكتاب [11/235 مع الفتح] أثراً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
" ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛
فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل ".


وأوصي بالاشتغال بما يعني عما لا يعني، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "
حديث حسن، رواه الترمذي (2317) وغيره، وهو الحديث الثاني عشر من الأربعين للنووي.

وأوصي بالاعتدال والتوسط بين الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " وهو حديث صحيح، أخرجه النسائي وغيره، وهو من أحاديث حجة الوداع
، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1283).

وأوصي بالحذر من الظلم، للحديث القدسي:
" يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا "
رواه مسلم (2577)،
ولقوله صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " رواه مسلم (2578).

وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه تحصيل العلم النافع والعمل به والدعوة إليه على بصيرة،
وأن يجمعهم على الحق والهدى، ويسلمهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على
عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.