الكتاب و الحديد
بسم الله ، و الحمد لله ، و الصلاة و السلام على رسول الله ، و على
آله وصحبه و من والاه و بعد :
تقوم الدولة في الشريعة على ركيزتين :
الأولى : الكتاب الهادي ، الثانية :الحديدالناصر
قال
تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)) ، قال ابن
تيمية (فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط
وليعلم الله من ينصره ورسله ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك
هاديا ونصيرا)أمرض القلوب ج1 ص40
فالكتاب : يرمز إلى الوحي المعصوم ، و المنهج الشامل ، و الرسالة القيمة ، و
المبادئ السامية ، و به يكون جهاد الحجة و البرهان ، و هو أكبر أنواع
الجهادين كما قال الله تعالى (فَلَا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )الفرقان52
و الحديد : يرمز إلى القوة الواعية ، و الهيبة البناءة ، و النفوذ الواسع ، و
به يكون جهاد السيف و السنان ،
و هذه وسائل الإصلاح المتوازن ، و التربية القويمة ، و القيادة
الرشيدة ، و إلى ذلك أشار الشاعر بقوله :
فما هو إلا الوحي أو حدُّ مُرْهفٍ* تُميلُ ظُبَاهُأخدعَيْ كلَّ ما ئلِ
فهذا شفاء الداء من كل عاقل * وهذا دواء الداء من كل جاهلِ
* احتمالات
العلاقة بين هذين العنصرين لا تخرج عن أربعة احتمالات :
الإحتمال الأول : اجتماع
الكتاب مع الحديد ، فالكتا ب يشير الى المبادئ و الاخلاق و العدالة الاجتماعية ، و
الانصاف في قسمة السلطة و الثروة ، و الحديد يرمز للقوة و الهيبة ، و بسط الامن ، و
إقامة الحدود ، و ردع المجرمين ، وفي هذا الوضع يكون الاستقرار و البناء و التعمير
، و يتبادل الراعي مع الرعية شعور الحب و الود و الايثار ، كما جاء في الحديث عَنْ
عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: ( خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ
وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، و الصلاة هنا الدعاء ، أي
: تدعون لهم و يدعون لكم ، وقيل يحبونكم في حياتكم و يصلون عليكم بعد مماتكم .
عندها تأوي الكلاب
إلى متاهات الهضاب
و تهيم في البيداء
قطعان الذئاب
حتى الثعالب تنزوي
لا تستطيع المكر
أو ترجو الخراب
و تطير أسراب الحمام
تظلل الأجواء تمحو
كل وهم أو سراب
و الأرض خضراء
تزينها الفراشات الجميلة
ماؤها عذب يغطيها السحاب
فالعدل مبسوط
بحكم الشرع
من وحي الكتاب
و الأمن محفوظ
و سيف الحق
في الأرجاء هادر.
وفي ظل هذه الأوضاع
الراقية تستقر الدولة و تستمر، و قد كان
ذلك واقعا حياً في خير العصور مع خير القادة و خير الشعوب ، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم قائد ، و كان مجتمع
الصحابة أطهر مجتمع .
الإحتمال الثاني : أن يوجد الكتاب و يغيب الحديد ، و هنا يحضر العدل و
تغيب القوة ،تظهر الأخلاق و تتلاشى الهيبة ، فتكون الدولة ذات قيم بلا حماية ، و لها مبادئ بلا وقاية ، و لها
قانون محنط لا يقوى على الحركة ، فيدب الضعف في أوصالها ، و تسري الآفات في
مفاصلها ، فتتآكل ثم تتهاوى و تنهار لأنه : لا يطاع لقصير أمر ، و من كان الضعيف
فإن حجته ضعيفة.
و من لم يذد عن حوضه بسلاحه * يهدَّم و من لا يتقي الشتم يُشتَم
الاحتمال الثالث : أن
يوجد الحديد و يختفي الكتاب ، و هنا يقعقع السلاح ، و تباد الأخلاق ، وتظهر مخالب
الظلم ، و تقطع شرايين الفضائل، فيقهر الشعب ، وتئن الرعية ، و تحتقن القلوب ، و
تطفح الضغائن ، ثم تنفجر براكين الثورات لتهلك الحرث و النسل ، و تزهق الأرواح ، و
يظهر في الأرض الفساد ، و يطل برؤوسهم دعاة الإفساد ، ليصلوا إلى ما يريدون من
شهوات و نزوات ، و هذا ما حذر منه الحديث الذي ذكرنا طرفا منه سابقا عن عوف بن مالك
الأشجعي(وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ
وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: لَا مَا
أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ أَلَا مَنْ
وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ
فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ
طَاعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وهناك
تنتحر العدالة
بل يواري جسمها
وحلُ التراب
يَسوَدُّ وجه الأرض
ينعق في نواحيها الغراب
و تجول في الأرجاء تنبح
كل قطعان الكلاب
وهناك ينتحب العفاف
فأهله قتلوا
و قد فقد المُوَاسي
و المُعَزِّي والصحاب
و هناك تغدو
كل حملان القطيع
وحوش غاب
تتطاول الجرذان
في سفه
على الأسد الجريح
تذيقه من كل أنواع العذاب
و الحاكم السفاح يبطش
ليس يذكر حين يلقى الله
أو يخشى العقاب
يؤيده بخبث
كل فاجرة و فاجر
و تصول في الميدان
دون تحرج
كل المخالب و الأظافر
الاحتمال الرابع :أن لا يوجد كتاب و لا حديد ، لا أخلاق و لا
قوة ، لا دين و لا دنيا ، فهنا يتحول المجتمع إلى غابة ؛ القوي فيها يأكل الضعيف ،
و سرعان ما تتآكل الدولة ، و تتلاشى إلى زوال و انهيار ، و هنا يكون الحشف و
سوء الكيلة ، و من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه ..
ولا خير في اليد
مقطوعة * و لا خير في الساعد الأجذم
و الله المستعان